يصطاد بالشبكة والمئات تموت قبل الوصول إلى العاصمة بين الجزائريين وطيور الزينة، "المقنين" تحديدا، قصة حب طويلة تمتد لعقود، فلطالما كانوا مولعين إلى حد الهوس بتربية هذه العصافير والاعتناء بها كأنها فرد من العائلة، ولا يتوانون عن دفع الملايين للاهتمام بها أو بحثا عن النادر منها.. لكن قصة الحب هذه قد تكتب نهايتها قريبا أمام تقلص أعداده بشكل رهيب واصطياده وتربيته من قبل أشخاص لا يقدّرون قيمة "المقنين الزين". لعلّ الشاعر الشعبي الكبير محمد الباجي كان أكثر من فهم وتنبأ بمآل “المقنين” معشوق الجزائريين، عندما رثاه في قصيدته الشهيرة “المقنين الزين”، وهو سجين ينتظر حكم الإعدام في زنزانته بسجن سركاجي عندما يقول “هدي مدة و سنين.. انت في قفص حزين تغني بصوت حنين..لا من يعرف غناك منين.. تغني تتفكر ليام اللي كنت فيهم حر تفرفر فالهوا طاير تعشش فالشجر”. فالمختصون في علم الطيور يؤكدون أنه بخلاف الكثير من الأنواع الأخرى لطيور الزينة، الطبيعة هي المكان الحقيقي لطائر “الحسون”.. وأن “الحسون” الجزائري من أرقى الأنواع في هذه الفصيلة، غير أنه مهدد بالانقراض إن لم يكن قد انقرض فعلا، فلم تعد المادة اللاصقة الوسيلة الوحيدة لاصطياده من قبل المولعين به، فاقتناصه اليوم يتم بالشبكة التي تأتي على المئات إن لم تكن الآلاف في عملية واحدة.. ينفق نصفها قبل وصوله إلى سوق الحراش.. أكبر “بازار” لبيع “الحسون” في الجزائر. “الحسون” الجزائري أرقى أنواع هذه الفصيلة بعيدا عن سوق الحراش، حيث يختلط الحابل بالنابل ويأتي الزبائن من كل حدب وصوب لاقتناء عصافير الزينة، “المقنين” تحديدا، بدأنا جولتنا لاقتفاء أثر تجار الطيور في العاصمة وما أكثرهم، من حي القبة، في محل شاب في منتصف عقده الثالث، ولجنا محله الذي يفترض أنه مختص في بيع طيور الزينة، لكن أول ما صادفنا هي “الفئران البيضاء” الصغيرة وأحواض الأسماء، فالمحل مخصص لكل شيء. غير أن صاحب المحل اعترف ونحن نسأله عن اختصاصه بأن المحل في الأصل لبيع عصافير الزينة، لكن هناء استثناءات حسب الطلب لجذب الزبائن، ولو أن العصافير الأكثر طلبا ولم يقلّ يوما الطلب عليها، و”المقنين خاصة هو سيد الطيور عند الجزائريين، بسطاء كانوا أم من أصحاب المال، الفرق فقط أن من يملك أكثر يمكنه الحصول على النادر منها”. وفي جولة على المحل الذي كان يعرض عصافير “الكناري” بأنواعها، “البيروش” و”المقنين”، وفي إطلالة على الأسعار، قال صاحب المحل إن ثمن الكناري يتراوح بين 1000 إلى 2500 و5000 دينار، حسب النوع واللون وثمن “البيروش” غير بعيد عنه. أما “المقنين” فثمن العادي منه 1500 دينار، وقد يتجاوزه ليصل إلى 10 ملايين إن كان من الأنواع النادرة “وهذه قليلا ما تقع بين أيدينا.. من تصل إليه هذه الأنواع يبيعها قبل أن تصل إلينا.. ثم لم نعد نراها حتى، فالمقنين اليوم يصلنا من المغرب و“المقنين” الجزائري أصبح عملة نادرة.. لا نصل إليه إلا في بعض المناطق الشرقية والمناطق الحدودية”. ابتسم صاحب المحل وأنا أسأله إن كان زبائنه يعرفون كيف يتعاملون مع هذا الطائر.. “أنا مازلت في طور التعلم فما بالك بالزبائن”، قبل أن يواصل: “يحدث كثيرا أن يأتي الزبائن إلى المحل لاقتناء العصفور ثم يعودون بعد فترة قصيرة لاقتناء آخر لأنه نفق، لأنهم يجهلون طريقة التعامل معه”. ف”المقنين”، حسب محدثنا، طائر حساس جدا، يتأثر بتغيرات المناخ، يتعرض كثيرا للأمراض، ويحتاج لأكل خاص “لكن نحن تعوّدنا على أن نقتني له “البراقة” فقط وهي في الحقيقة تكفي فقط لسد الجوع”. تحدثنا إلى بعض الزبائن المتواجدين في المحل، فأجمعوا على أنهم يعتبرون “الحسون” ديكورا مهما في بيتهم مثله مثل أي شيء لا يمكن التخلي عنه في البيت، وإن اعترفوا بأنهم لا يعرفون أبجديات الاعتناء به وهو ما يتسبب في لجوئهم في الكثير من المرات لاقتناء آخر. حاولنا جس نبضه هؤلاء بالقول إنه معرض للانقراض وإن الطبيعة مكانه الطبيعي، فردوا علينا بقهقهات على غرار بوعلام الذي كان بصدد اقتناء حبوب “البراقة”، قائلا: “كلنا سننقرض في النهاية، فأين المشكل؟”. انتقلنا إلى محل آخر في حي باش جراح، صاحبه في عقده الرابع، كان بصدد بيع “كناري” لرجل اقتناه ليهديه لابنته، حسبما وصلني من حديثهما. كشفت لصاحب المحل عن هويتي ورحت أسأله عن أكثر الطيور طلبا في محله، فقال دون تردد أن “المقنين هو سيد القلوب”. أما كيف يصل إليه، فذكر صاحبنا أنه يقتنيه من سوق الجملة ب”الحراش”، كما يتعامل مع أشخاص متمرسين في الصيد يأتون له ب”المقنين” من جبال جيجل أو تبسة، وهذه أغلى من “المقنين المغربي”. مقنين بين 1000 إلى 9000 أورو وذكر صاحبنا أن أغلب زبائنه من الأشخاص العاديين الذين ليست لهم دراية كبيرة بطريقة الاعتناء بهذه الفصيلة من الطيور، “فالمتمرس في تربيتها لا يأتي إلى هذه المحلات بل ينقب عنها من أشخاص معروفين يديرون بورصة بيع هذه الفصيلة من بيوتهم، وتحدد سقفها تغريدة “الحسون” التي تحسب بالنوطات مثلها مثل المقطوعات الموسيقية، فهذا الطائر يتمتع دون غيره من الطيور بالقدرة على حفظ التغريدات، ولونه أيضا يتحكم في سعره”. وحول هذه النقطة، ذكر محدثنا أنه كثيرا ما يتعامل مع المغتربين والقادمين من أوروبا ومختلف بقاع المعمورة “هؤلاء يدفعون بالأورو للحصول على المقنين.. إنه ريحة لبلاد التي تغرد في الضفة الأخرى وقد يكلفهم حتى 50 ألف دينار”. وإذا بدا للبعض أن 50 ألف دينار ثمن باهظ، فأسعار أنواع أخرى خيالية بامتياز، إذ ذكر لنا جبلون توفيق، رئيس جمعية ترقية تربية الطيور للجزائر العاصمة، أن بعض الأنواع ثمنها من 1000 إلى 9000 أورو.. ويقطع من أجلها الزبائن البحر للحصول عليها، فماذا يميز هذا النوع حتى لا يتوانى “المهوسون” بها إلى اقتنائها؟ وهؤلاء ليسوا زبائن عاديين، بل هم جامعو الأصناف النادرة. أما ما يميز هذه العصافير فهو طريقة تغريدها، فبعضها لديه قدرة كبيرة على الغناء بطريقة خاصة، وأصحابها يعملون على تلقينها التغريدات بالاعتماد على أشرطة قديمة وأقراص مضغوطة بها تغريدات ل”الحسون” الجزائري القديم، يقول محدثنا. واللون أيضا يرفع من قيمة هذه الأنواع “قد تحدث طفرة في تكوين العصفور، فيصبح لونه كله أبيض، وهذا أغلاها، أو يتغير موضع الألوان الأخرى كأن يتحول لون الرأس إلى الأحمر من الخلف وغيرها من الطفرات”. وحتى الطفرات البسيطة التي تكون على شكل بقع في أنحاء متفرقة في جسمه ترفع من ثمنه الذي يصل من أجل بقعة صغيرة في غير محلها الطبيعي، إلى 3 ملايين سنتيم. مهوسون يدللون عصافيرهم أكثر من أبنائهم تركنا أصحاب المحلات لنقترب من المهوسين بتربية العصافير و”المقنين” طبعا، لأننا وقفنا على أنه الأكثر طلبا، على غرار شاب من أبناء باب الوادي، في بداية عقده الثالث، فضّل أن نسميه محمد، صاحب محل للمواد الغذائية، قال إنه يتنقل من ولاية إلى ولاية بحثا عن “المقنين” النادر صاحب التغريدة الفريدة. يشد رحاله إلى خنشلة في أقصى الشرق ومغنية في أقصى الغرب من مرتين إلى ثلاثة في ظرف شهرين، يقتني “المقنين” من صائديه مباشرة “اكتسبت الخبرة من المختصين في السنوات الأخيرة وأصبحت أتحكم في بعض أبجديات تربيته”. وبعد أن تصبح الطيور في بيته، وقد تموت أعداد منها في طريقها إلى العاصمة، يخصص لها مكانا في سطح العمارة “فزوجتي ملت من تنظيفها وكانت سببا في خلافات هددت حياتنا الزوجية”، وهنا تبدأ قصة أخرى مع تلقينها التغريدات.. وصاحبنا مثلما يتنقل إلى أقصى الشرق من أجل اقتنائها تجده ينقّب عن أشرطة التغريدات، ويبحث في مواقع الأنترنت عن من يملك النادر منها، وقد تكلفه من 5000 إلى 10 آلاف دينار، ناهيك عن الفيتامينات التي يقتنيها خصيصا لها، قبل أن تصبح جاهزة للبيع، وكل هذا على حساب ميزانية بيته. يقول محدثنا: “تربيت على صوت “المقنين” قبل أن أتعلم الكلام حتى، ولا يمكنني تصور حياتي من دونه، لا تهمني كثيرا الأرباح التي أجنيها من وراء إعادة بيعه، فأنا أخسر أكثر مما أربح.. لكن هي قصة حب قديمة صوته يخلويني.. ولا يهمني كم يكلفني أو سيكلفني الأمر”. الأكيد الذي وقفنا عليه في جولتنا أن “المقنين” كان ولايزال معشوق الجزائريين، والحديث عن انقراضه مشكوك فيه بالنسبة إليهم، لأنهم لا يتصورون غياب “الكاجا” عن بيتهم، وجميع من أثرنا معهم الموضوع ردوا بابتسامة “هو يغرد منذ قرون في بيوت البهجة وسيبقى كذلك”. رئيس جمعية ترقية تربية الطيور “أوقفوا إبادة الحسون” يؤكد السيد جبلون توفيق، رئيس جمعية ترقية تربية الطيور للجزائر العاصمة، أن “الحسون” الجزائري تعرض لحملات إبادة حقيقية قضت عليه، ليحل محله “المقنين” المغربي الذي يتم تهريبه عبر الحدود، متسائلا عن جدوى إقرار قوانين لحماية هذه الفصيلة من الطيور دون تطبيقها في الميدان. ويرى السيد جبلون أن 80 بالمائة من المختصين في تربية الطيور وأصحاب المحلات المختصة في هذه التجارة، لا يفقهون شيئا في أبجديات الاعتناء ب”الحسون”، ويأخذون الأمر على أنه عملية تجارية فقط، وحتى المهوسون بتربيته يجهلون أنه يحتاج إلى عناية خاصة من حيث الأكل وحمايته من الأمراض وغيرها. وأضاف محدثنا: “بخلاف باقي طيور الزينة، مثل الكناري، البيروش والحمام، وغيرها من الفصائل التي أصبحت طيورا منزلية بامتياز ولا يمكنها العيش في الطبيعة، المكان الحقيقي للمقنين هو الطبيعة، فهو يعيش على أطراف المدن ويتغذى من الفواكه والديدان والحشرات الصغيرة، ووقوعها بين أيدي غير المختصين يعجّل بنفوقها”. وبرر التناقص الرهيب في أعدادها، وهو سبب اللجوء إلى اقتناء “الحسون” المهرب من المغرب، بالحرائق التي أتت على الغابات في العشرية السوداء، وكذا الاستعمال المفرط للمبيدات الحشرية في الحقول الفلاحية، وهو ما يؤدي إلى نفوقه، مواصلا: “أنثى “الحسون” هي المسؤولة على إطعام صغارها، وهي من تتسبب في نفوقها بإطعامها فواكه وحشرات مسمومة”. أما أكبر خطر يتهدد تلك الطيور، حسب المتحدث، فهو اللجوء إلى اصطيادها بالشبكة “وهي طريقة جديدة لم نعرفها في السابق، حيث يتم اصطياد نحو 4000 عصفور دفعة واحدة، والأمر أن أعدادا كبيرة منها تنفق في طريقها إلى العاصمة لإعادة بيعها”. واستغرب جبلون صمت السلطات إزاء “حملات الإبادة” هذه، وكذا بيعها بطريقة فوضوية في سوق الحراش مثلا، رغم أن القانون يمنع اصطيادها، مواصلا: “حتى عندما يتم حجزها من طرف مصالح الجمارك أو الدرك يتم إطلاقها في الغابات القريبة ليتم اصطيادها من جديد، والأصح هو تخصيص محميات يشرف عليها مختصون من أجل الحفاظ عليها وتكاثرها”. وعن هذه النقطة، أضاف محدثنا: “من هب ودب يعتبر نفسه مختصا وله دراية في هذا المجال وعارفا بتحفيز تكاثره، وهذا غير صحيح، فلتكاثره تحتاج الأنثى إلى عناية خاصة، تبدأ من الأكل والنظافة وغيرها، وهذه الأمور لا يعرفها إلا المختصون وهم وحدهم مخوّلون بالتعامل مع هذه النوعية من الطيور”. وعن الجمعية التي يرأسها، قال السيد جبلون إنها تعمل منذ تأسيسها على تعميم أبجديات علم الطيور وترقية تربية طيور الزينة باستعمال التقنيات الحديثة، وتطوير العلاقات بين مربي طيور الزينة وكذا تنظيم المسابقات والتظاهرات الخاصة بعلم الطيور، مع تحسيس الأطفال الشباب بتقديم معلومات خاصة بالطيور. وناشد المتحدث السلطات المختصة حماية هذه الفصيلة من الانقراض وتفعيل قوانين حمايتها لضمان استمرار هذا الصنف. المهربون يتجهون نحو المغرب يتعرض الطائر الشوكي المعروف باسم “المقنين” لحملة من الصيد الفوضوي الذي يكاد يقضي عليه. وتعتبر ولاية تلمسان من المناطق المعروفة بتواجد هذا الطائر الذي ارتفع سعره في الأسواق ووصل إلى 10 آلاف دينار للطائر الواحد، ونظرا لقيمته فإن التهافت عليه أصبح كثيرا. وبعد أن “أبيد” “المقنين” الجزائري، توجه البعض لتهريبه من المغرب. وكانت عناصر الدرك قد أحبطت عدة محاولات لتهريبه من هذا البلد، وتسويقه نحو العاصمة ومدن الشرق الجزائري عبر تلمسان. كما أحبطت مصالح الجمارك بميناء الغزوات محاولة تهريب حوالي 400 طائر مهرب من إسبانيا نحو تلمسان على مرتين. وتعرف غابات تلمسان، خاصة جنوبها، بتكاثره، ما شجع الكثير على اصطياده بواسطة عدة وسائل، منها ما تعلق باستعمال الغراء أو الصناديق. تلمسان: ع.بن شادلي تجارة مزدهرة على الحدود الشرقية تعرف مدينة تبسة ازدهارا لتجارة الطيور بمختلف أنواعها، حيث كرست ساحة السور البيزنطي كأكبر فضاء أسبوعي لعرض هذه الأصناف التي تتم تربيتها بالأقفاص بعد صيدها من الغابات الحدودية الشرقية. وحسب العارفين بخبايا هذه التجارة الرائجة، فإن القيمة المالية لطائر “الحسّون” تتراوح بين 2000 و12 ألف دينار، حسب الصنف والتغريد والألوان وأنه يتعرض لحملة صيد فوضوية وكبيرة من طرف الجيران في تونس، لاسيما بمنطقة ‘'الطباقة'' الغابية التابعة إقليميا لبلدية الكويف شمال وسط مدينة تبسة. السكان المحليون أيضا وجدوا في هذا النشاط مصدر رزق جديد لهم، حيث يقومون بإضافة هذه الطيور إلى سلة المهربين. وتؤكد أرقام الدرك الوطني للسنة الماضية حجز 9 آلاف طائر من مختلف الأصناف، كانت في طريقها للتهريب إلى خارج الحدود، تجاوزت قيمتها في السوق الجارية ال300 مليون سنتيم، ويمثل طائر “الحسون” 90 بالمائة منها. وأمام هذه الوضعية، يقول التجار الصغار للطيور إن دخول المهربين على الخط يعتبر أسوأ عامل لم يكن في الحسبان، وحتما سيساهم في انقراض هذا العصفور الجميل من الغابات الجزائرية عامة وغابات شرق البلاد تحديدا. تبسة: عبد الله زرفاوي