سنة 1999، كنت معارضا لترشح السيد عبد العزيز بوتفليقة للانتخابات الرئاسية، بالرغم من محاولات العديد إقناعي بمساندته. وفي يوم تأديته اليمين الدستوري، أبلغته هذه الرسالة: الجزائر، 20 أفريل 1999 إلى السيد رئيس الجمهورية @ أردت، عشية تقلدكم منصبكم الجديد، وما لم تأخذكم واجبات الرئاسة كلية، أردت أن أقدم لكم تهاني الخالصة وتمنياتي بالنجاح في كل ما ستقومون به من أجل الوطن، وفي نفس الوقت أدلي لكم ببعض الأفكار التي أخصها للرجل أكثر منها للرئيس. فمهما كانت مواقفي وتحفظاتي من ترشحكم، أنتم اليوم رئيس كل الجزائريين وبالتالي رئيسي أيضا. لقد أصبح ذلك معطى تاريخيا أنظر إليه بنظرة إيجابية وحسن نية. ومن هذا القبيل، أسمح لنفسي بحق إمدادكم هذه “النصيحة” بالمعنى الإسلامي السامي. أدري أن كل ما ستقرؤونه فيما يلي ليس بالغريب عن ثقافتكم ومعرفتكم للعالم والحياة، لكن بالرغم من ذلك أردت أن أكتبه لكم، على الأقل لإرضاء حدسي الذي ألهمني هذه المبادرة. في زمن ولى، عرفتم رونق الحياة العمومية ثم لدغتكم بسمومها، ذقتم زهو الحياة والتشريفات قبل أن تذوقوا علقم الحرمان منها، عرفتم صخب النجاح ثم وحدة الملعون. رفعكم العالم إلى فوق فكدتم تلمسون الثريا، ثم رماكم في الوحل. أنتم إذن تعرفون حق المعرفة رهافة الأشياء وتقلب الرجال. لكن ها أنتم اليوم من جديد محمولون على الأكتاف كما في عز أيامكم. لا الأشياء ولا الرجال تغيروا، لكن، هل أنتم تغيرتم؟ كنتم في السلطة وأبعدتم عنها وها أنتم عائدون إليها لوقت غير معلوم. وستتركونها مرة أخرى بالتأكيد، لكن هذه المرة بصفة نهائية، ولن تجدوا أمامكم الوحدة والصحراء، لن تجدوا المنتخبين والرأي العام العالمي لمحاسبتكم، بل ستمثلون أمام محكمة الدهر والتاريخ والله. إن مساركم، بما يحمل من أحزان البارحة ومعاناة اليوم أمام ضربات منافسيكم ومستواكم الثقافي وتجربتكم وحس الدولة لديكم وعمركم، كل هذا لا يسمح لكم بتقديم عهدة خامدة جامدة مسطحة لا تضاريس فيها ولا ذوق، وتقبلون فيها تواطؤ الدم مع روح الرعاع المعمم. لن يكون ذلك بالأمر الحكيم. عندما رجع ديغول إلى سدة الحكم سنة 1958 وسط أزمة مثل التي نعيشها اليوم، قال هذه الكلمات “إن الجميع يناديني في هذه المرحلة إلى اتباع الرداءة، لكنني سأعمل على البقاء في العلا”. كان متقدما في السن، وحيدا وغارقا في بحر من المعاداة. لكنه كان قد عاد وفي ذاته مشروع كبير، هو مشروع إعادة الوفاق بين أفراد شعبه، وإخراج بلده من حرب الجزائر، وإصلاح عميق لمؤسسات الدولة الفرنسية حسب مخطط كان قد أعلنه في مدينة “بايو” 12 سنة من قبل. كان رجلا يحمل رؤية ويؤمن بمهمته وقام بواجبه كاملا دون هوادة. ففاز بمكانة سامية في ذاكرة شعبه المعترفة له بحق الجميل إلى الأبد. هناك أفعال ومواقف تبصم الضمير الإنساني وترسخ فيه قيما جديدة وتؤسس معالم دائمة للأجيال التالية. فلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وهو الذي قال يومين قبل وفاته في مسجد المدينة وقد نال منه التعب والمرض “يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلا إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ مَالا فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ ..أَلا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ اللَّهَ وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ”. وأما صلاح الدين الأيوبي، فبعث عشية وفاته ببراح يجول في شوارع دمشق حاملا كفنه ويقول بين الناس “إن صلاح الدين الذي فاز بالمغرب والمشرق، لا يأخذ من ثروته سوى هذا الكفن”. وفي المقابل، نجد في سجل الإنسانية من طغى على أنفسهم الكبر مثل نابليون الذي صرخ مفتخرا بعد عودته من منفاه بجزيرة الإلب “ستنقضي آلاف القرون قبل أن تجتمع نفس الظروف التي اجتمعت فوق رأسي على رأس شخص آخر وتعيد نفس المشهد تريه للإنسانية. أما أنا سيظل اسمي ما ظل الله في السماء”. كما كان هتلر متأكدا أن امبراطورية الرايخ الثالثة ستدوم ألف سنة. كنتم في السابق، حسبما يقوله الجميع، وزيرا لامعا، لكن في المستقبل، عليكم أن تكسبوا مزيتين اثنتين أخريين يمتلكهما الذهب: القيمة والصفاء. وأنا أتابع حملتكم الانتخابية في التلفزة، حاولت أن أقرأ فكركم العميق وراء أفعالكم وأقوالكم، وفي بعض الأحيان كان يخيل إلى أنني أستمع إلى القذافي أو كاسترو أو صدام، فينتابني الخوف على مستقبل بلادي. وعلى العكس لم يصدمني حكمكم المرير على بلادنا وعتابكم لمواطنينا. كنت أشعر أحيانا أنكم تضعون نفسكم في كفة والوطن في الكفة الأخرى. لكن، لم آخذ هذا على أنه غرور لامتناهٍ. فبينما كان منافسوكم يتسابقون فيمن يكون أكثر شعبوية وسطحية، كنتم تتميزون بجهدكم لتفهموا مواطنينا أن قسطهم في الأزمة ليس بالهين. يقول فيكتور هيجو “الكلمات مخلوقات حية”. في وقته، لم يتوصل العلم بعد إلى إثبات الدور الفيزيائي والكيماوي للأفكار، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، وتأثيرها على الجهاز العصبي والذهني. نعم، قد تقتل الكلمة وقد تحيي. ونعم فإن شعبنا يكره “الحقرة” ما دامت مسلطة عليه، لكن كل شخص جزائري بمفرده “حقار” مبيت، وقد يمارسها يوميا دون أن يشعر حتى. فمن المفيد أن يعلم هذه الحقيقة لكي يتحسن. إن الكلمات والخطابات تحمل أفكارا وتوجه العمل الإنساني، إذ هي تستند إلى أنظمة قيمية ومثالية، وتكون بالتالي وسائل جد ناجعة في التأثير على أذهان الناس وشعورهم. وبهذا المنظور، ومع مرور الوقت، تصبح الأيديولوجيات طباعا ونفسيات. ونحن نقول إن مشكل الجزائر الأساسي هو بالذات مشكل نفسي وهو الذي تنجر عنه كل المشاكل الأخرى. وفي الحقيقة فإن الأشكال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأزمة التي نعيشها ما هي إلا آثار سبب نفساني تكون على مدى ثلاثين سنة من الخطاب العام. عرف بلدنا من تقلبات التاريخ ما جعله لم يعرف بعد طريقه إلى وحدة نفسية صلبة، ولم يتحول شعبنا بعد، على شجاعته وصفاء نيته، إلى مجتمع منسجم وفعال. لم نقم بما فيه الكفاية مع بعضنا عبر الزمان، ولم نختزن بعد ما يكفينا من الميكانيزمات وعادات التعايش لكي نصل إلى مرحلة الوطن بصفة ذاتية. ولو كان الأمر كذلك لما مزقتنا أول ضربات الأيديولوجية الإسلاموية أو تسييس القضية الأمازيغية. إن القوة ليست هي الوسيلة التي تقي على الدوام من دواعي فقر اللحمة الاجتماعية والغياب شبه الكلي للروح المدنية. كما لا ينفع السخاء الاقتصادي. صحيح يمكن أن نفوز بنوع من الخنوع والاستقرار بإغراق البلد ذهبا وإملاء بطون سكانها، لكن هذا لا يجعل منهم كائنا مدنيا منسجما. إن مثل هذه السياسة تحمل اسما هو “شراء السلم الاجتماعي”، وفي نظري فإنها أخطر من ذلك، أسميها “إفشاء روح الرعاع”. وهذا معناه أنه بمجرد توقف الهبات، كما حدث في 1988، تتفسخ اللوحة الظاهرية وينصرف كل صف إلى أول ما يجده أمامه من مشعوذين وشعبويين وعدميين، ويُرمى بالبلاد في الفوضى والحرب الأهلية. في الستينات والسبعينات، كان العقد الاجتماعي الذي شكلته ثورة التحرير قويا بما يكفي لأنه كان ما زال يؤثر بقوة على الأذهان، وشعر الشعب الجزائري أنه في توافق مع نفسه وتاريخه. وكان واثقا من أن السلطة تسعى إلى إرساء دولة دائمة واقتصاد تنموي. وكان الوضع الدولي مناسبا أيضا، حيث كانت الحرب الباردة بين الشرق والغرب وتصاعد الوطنيات والرومانسية الثورية تضفي جوا من الرفاهية والتقدم. لكن ذلك الزمان قد ولى. في سبتمبر 1972، وفي قمة بلدان عدم الانحياز، ندد المرحوم بومدين صادقا بالوضع الدولي “نحن نمثل أربعة أخماس سكان المعمورة، ونمتلك ثلاثة أخماس ثروات الأرض ومع ذلك فنحن لا شيء. هذا هو الذي يجب أن يتغير”. وفي الحقيقة، وبعد ثلاثين سنة، قد تغير الأمر كثيرا لكن نحو الأسوأ. لقد اندثرت إحدى القوتين اللتين بسببهما وجدت حركة عدم الانحياز، ولم يعد العالم الثالث كوحدة مميزة. وفي كتابه الأخير “لعبة الشطرنج: أمريكا وباقي العالم”، قال برزنسكي إن القارة الأورازية هي الرهان الجيوسياسي خلال العقود الآتية، وتحدث عنها تقريبا كما وصف بومدين العالم الثالث “إنها أكبر قارة في العالم، فيها 75% من سكان المعمورة، و60% من المنتوج الخام العالمي وثلاثة أرباع ثرواتها الطاقوية المعروفة”. إن النظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه جورج بوش في بداية التسعينات ليس هو ذلك الذي كنتم تسعون إليه نفسكم في بداية السبعينات بكل إيمان وعزيمة. ففي هذا النظام الجديد لا تعد إفريقيا أن تكون سوى زائدة خامدة للقارة الأورازية. وحتى بريطانيا العظمى هي “فاعل استراتيجي في التقاعد” في نظره. وفي هذا الخضم وعلى ضوء الوضع الجديد وبالنظر لموقعه الموضوعي، لا يمكن لبلادنا أن تطمح على المدى المتوسط لأكثر من أن تكون “محورا جيوسياسيا” (أي دولة تنبع قوتها من موقعها الجغرافي الحساس أكثر مما تنبع من قوتها)، مثلها مثل تركيا، إيران، أذربيجان، أو كوريا الجنوبية. كانت السياسة الدولية في الستينات والسبعينات تتم بالكلمات والتجمعات، بينما تتم اليوم بالصواريخ الموجهة بالليزر. لذا فإن امتلاك أسطول نووي لا ينفع صاحبه ما لم يملك القوة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية. ويبقى الإيمان بالله آخر مفر للمساكين في العراق وصربيا، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول “إن الله يبعث ضوء شمسه على الصالحين والأشرار، ويمطر السماء على العادلين والظالمين”. لكن الله أوقف رسالاته بعد أن ختمها برسالة نبينا الكريم ولم يعد يتدخل في شؤون البشرية مباشرة، لذا فعلى الناس أن يأخذوا بأوطانهم إلى بر الأمان، وفي حالتنا نحن، فإن هذا الواجب يقع على عاتقكم أنتم سيدي الرئيس. لقد عانت بلادنا طويلا من جهل حكامها الذين استعملوا قواهم الذهنية والفكرية الهزيلة لاكتساب موقع واه ثم الحفاظ عليه، بدل أن يلعبوا دورهم لأنهم لم يعرفوه أصلا ولم يكونوا ولدوا له. أما اليوم وقد اختاركم الدهر للوقوف على مصير بلادنا في بداية الألفية الثالثة، عليكم أنتم أن تضعوا كل قواكم في خدمة هذه المهمة وتستنفروا ضميركم، وتسخروا تجربتكم ومعرفتكم من أجلها: علموا الشعب، أيقظوه، أصلحوا دولته ومدرسته وجامعته، أثروا على مخيلته وذهنه، ادفعوا به للسمو الروحي، وأحيوا فيه روح الواجب وحب العمل والتفاني والإخلاص والاستحقاق، نظفوا العدالة والإدارة، شجعوا الثقافة (الحقيقية)، وأبعدوا “البراغيث والرداءة”.إن المواطنين في كل البلدان عادة ما ينتظرون المثل من أعلى مسؤول في البلاد ويتبعون الطريق الذي يشير إليه. إن الشعوب تنتظر لاشعوريا أن تكون أفعاله تحمل رمزية، وأن يبدي دلائل قدراته وصدقه. لقد تحدثتم عن روح الفروسية، إذن أظهروا للشعب أنكم فارس بحق وحقيقة، وبأنكم حليم دون ضعف وقوي دون شراسة. يمكنكم أن تحققوا “المصالحة” بشرط ألا تبدو انهزاما أمام العنف يستعمله كل من أراد أن يمرر آراءه بنفس الطريقة، وإن فعلتم فإنكم بمجرد أن تمضوا السلم مع طرف حتى ينهض طرف آخر ويصعد إلى الجبل للمطالبة بعدها ب “الرحمة والمصالحة”. إن بلدنا سيندثر لو عاش حربا أهلية أخرى ولا أحد سيمنع حينها الأجنبي من التدخل لمساعدتنا على “حل” مشاكلنا. كتب نيكسون في مذكراته وهو يستعيد مساره السياسي “إن العدو هو صديق لم ألتق به”. إن هذه المقولة تنطبق عليكم، إن بالسلب أو الإيجاب، إن غالبية الجزائريين اليوم لا يعرفونكم، لم يلتقوا بكم ولا يعرفون عنكم سوى ما يشاهدونه أو يقرؤونه. أنتم اليوم أمامهم، وهي الفرصة لكي يتعرفوا عليكم وعلى حقيقة ما تحملون، وفي الأخير، سيصبحون أصدقاء لكم أو أعداء. إن رجل الدولة الذي ينظر إلى فوق وليس إلى تحت، ويتثقب أفق التاريخ بدل كواليس السلطة، ولا يعمل للمدى القصير فقط، ولا يغازل الجهل والمساوئ في مواطنيه لكي يحبوه، سيفوز برضاهم ومحبتهم لامحالة، ويفوز في نفس الوقت باحترام الخارج، لأن ما نسميه بلغة اليوم “الشرعية بالعمل”، كان الصينيون القدامى يسمونه “حكم السماء”. أنتم الآن في هذا الموضع بالذات. أعانكم الله ووفقكم في تأدية مهمتكم النبيلة السامية. نورالدين بوكروح ترجمة: نورة بوزيدة