لم أكن أتوقع أن يمتد بنا حبل الوصال في الحديث عن محنة العربية في بلادنا إلى هذا الحد، ذلك أنني من الذين يدركون أن ما أثير في هذا الصيف، لا يعدو كونه حلقة من حلقات المد والجزر في بحر تاريخ الجزائر الهادر، ومحنة العربية بدأت يوم دنست أقدام الغزاة هذه الأرض الطاهرة، وران ليل الاحتلال الاستيطاني، فقتل ودمر، وهجر وابعد، لكن الأخطر من كل ذلك أنه عمد إلى تشويه فصيل من أهل البلد، رباهم على عينه، فأصبحوا ينطقون باسمه، ويسمعون بأذنيه ويرون بعينيه، يفرحون لفرحه ويحزنون لحزنه، هذا هو أخطر منجز من منجزات الاحتلال، هو أن نفث روحه في قطعان من أهل البلاد، ينظرون إلى شعبهم نظرة استعلاء، وإلى ثقافة هذا الشعب نظرة ازدراء واحتقار، فهم المجتمع المفيد وبقية الشعب رعاع وقطيع من "الأنديجان"... واعترف أن الذي جرني للحديث في الموضوع من جديد، هو مقال نشر على حلقتين (5 و6 أكتوبر 2008) في يومية "الوطن"، وإن كنت أعرف أن الحوار والجدل مع بعض الناس لا طائل من ورائه، لكن صاحب المقال يلح في كل مرة على نسبة نفسه للجامعة، ويصف نفسه بالجامعي، وعادة يلجأ الكتاب إلى هذا النسب ليفهم القارئ أن الكاتب يتحرى الموضوعية، فلا يلجأ إلا لمنطق العقل والعلم في عرضه لما يراه من حقائق أو في رد ما يظهر له من أباطيل، وحوار في هذا المستوى لا بأس معه باختلاف الرأي، فالخلاف لا يفسد للود قضية، لكن الود يذهب أدراج الرياح عندما يلجأ "الجامعي" إلى منطق التهريج، وسوق الاتهامات الجاهزة، والعبارات المستفزة... ولنبدأ من العنوان، فالكاتب "الجامعي" لا يرى في الذين يخالفهم الرأي إلا شخص من اثنين، إما انتهازي متسلق يركب حصان الثوابت ليصل إلى السلطة، أو معتوه قاصر المدارك العقلية لا يفهم؟ ومن أجل ذلك اختار "الجامعي" لمقاله عنوانا مثيرا: "دفاع انتهازي عن الهوية الجزائرية أم قصور في التفكير؟" وسوف ندع تخرصات "الجامعي" التاريخية، لن ندخل معه في جدل حول دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خلال الثورة وقبلها، وسوف لن نذكر جحافل الشهداء والقادة الذين تربوا في مدارسها، وأنا اتفق معه في وجوب كتابة التاريخ الوطني، ومواقف جميع المتحركين فيه، يجب أن تعرف مواقف الجميع، للتاريخ ومن أجل الأجيال الصاعدة، لكن الفرية التي لا أستطيع أن اسكت عنها، هي قوله أن الجمعية كانت ترد شعارات "خصومها القتلة"، والذين هم على وجه التحديد حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية، والحمد لله أن ناسا كثيرين من هؤلاء وأولئك مازالوا على قيد الحياة، ما زال سي العربي دماغ العتروس والشيخ عبد الرحمن شيبان، ومازالت عائلات من الجزائريين كان فيها المنتسبين للجمعية وللحزب في الوقت نفسه، دون أن يشعروا بالتناقض أو القلق النفسي... لن نسترسل في الحديث عن هذا الخلط المتعمد من "الجامعي"، لكنني أحب أن أقف معه على مربط الفرس، كما يقال، فالذي دفع ب"الجامعي" إلى كل هذه المقدمات التاريخية هو ما نشر من مقالات على صفحات "صوت الأحرار" و"الشروق"، وان كان قد اصدر حكمه ابتداء على أصحابها ووصفهم بالانتهازيين أوالمعتوهين، "الذين يبحثون عن المكفاءات، والاعترافات والترقي في السلم الاجتماعي أو السياسي عن طريق الاستغلال المستميت لعواطف الرعاع الدينية والوطنية، ليفرضوا أنفسهم ودون منازع أبطالا مدافعين عن الهوية الوطنية "، فإذا أضفنا إلى هذا أن هؤلاء المعربين يناصبون الفرنكوفونيين العداء، فالصورة تبدو كاملة... أنا أنبه "الجامعي" إلى أنه إذا كان يدرس طلابه وفق هذا المنطق، فالجامعة في خطر، لأنه لو كتب بصفته الحزبية أو الشخصية لكان الأمر هينا، أما نسبة هذا الهراء للجامعة فمؤسف جدا، لأنني لا أذكر كاتبا واحدا ممن ذكرهم لم يتحفظ في ذكر أن الخصومة ليست مع الوطنيين من الفرنكوفونيين، وليست مع اللغة الفرنسية بوصفها لغة، إنما الخصومة كل الخصومة، مع الذين يريدون أن تبقى الفرنسية مهيمنة على الحياة الثقافية والعملية في بلادنا، وأن تسد كل المنافذ في وجه لغة البلاد الموحدة بين شعبها، شماله وجنوبه غربه وشرقه، وأنه لا خصومة بين العربية الأمازيغية إلا في أذهان من يلوح بالأمازيغية لفسح المجال أمام الفرنسية، هذا كلام يؤكده دعاة الثوابت الوطنية في كل مرة، لكن "الجامعي" وحزبه يصرون على قلب الحقائق... ومع نهاية مقاله يصل "الجامعي" إلى قمة "الهستريا"، لقد كاد أن يخرج كل مفردات قاموس لغة فولتير في التجريح، فخصومه أشبه ب"مرتزقة القلم"، وأقلامهم مأجورة لخدمة جهات غامضة، بل ويذهب إلى تزييف وعيه بالسخرية من الدعوة إلى تعلم اللغة الانجليزية بدل الفرنسية، وكأنها لعبة تبادل الأسياد، وهذا مسلك غريب من "الجامعي" الذي ربما يجهل أن أغلب الأبحاث العلمية في فرنسا تنشر باللغة الانجليزية، وأن الفرنسية لم تعد تعشش إلا في رؤوس "البيكو"، فوصف من يدافع على رمز من رموز السيادة ومكون من مقومات الشخصية الوطنية بالأقلام المأجورة، فبما نصف من يتصدى لهم؟ وهل يصدق "مخبول" أن الدفاع عن العربية وتبنيها، يمكن أن يوصل أصحابه إلى تسلق المراتب، وهو يعترف أن أغلب النافذين من "الفرنكوفونيين"، أي سخرية هذه والشرط الأساسي للظفر بأغلب الوظائف، مرتبط بالحديث بلغة موليير، فتجد مستويات ضحلة لا كفاءة لديها إلا كونها "فرنكو"، ويزج بالمعربين في طرف قصي من الحياة العامة وإن يكن في عقل أفلاطون، فاللغة الفرنسية كما لا يخفى على "الجامعي"، هي لغة المؤسسات الهامة والمراكز النافذة، والقول أن الدفاع عن لغة الأمة ومحاولة استرجاع مكانتها الطبيعية، القول بأن مثل هذا النضال قنطرة لتولي المناصب والظفر بالامتيازات كلام مضحك وبائس، لأن الواقع يكذبه... ولم ينس "الجامعي" بأن يذكر من يتذكر، بوجوب قطع الطريق على هذه الأفكار التي يمكنها أن توقظ الشياطين، وتؤدي للتطرف، أي نعم فالحديث عن استعادة العربية لمكانها الطبيعي، هو إيقاظ لشياطين التطرف، وانظر إلى عبارة "قطع الطريق" التي تتردد على ألسنة هؤلاء، فلا مكان للحجة والبرهان، فالمنطق هو منطق قطع الطريق وقلب الطاولة !