لم تكرس مسودة تعديل الدستور التي أعدتها لجنة الخبراء، مبدأ "الفصل بين السلطات" الثلاث، كمطلب دعت إليه الأحزاب السياسية وكشعار رفعته أحزاب الموالاة منذ فترة، وحتى وإن كانت تعديلات الدستور للجنة عزوز كردون، مجرد وثيقة آيلة للإثراء مع المتشاور معهم، إلا أن ما تضمنته الوثيقة الأولية مؤشر على رؤية السلطة بشأن ما تفضله أن يكون. مسألة الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، لم تتناوله مسودة تعديل الدستور، بشكل واضح وصريح، حتى وإن سعت لجنة الخبراء إلى تقديم”حد أدنى” من الفصل، وفقا ل«تنازلات” من قبل السلطة، إلا أن هذه التنازلات، وتبعا لعدد من المواد المعدلة، رهن تطبيقها بالإحالة إلى “القانون العضوي”، والإحالة إلى القانون العضوي يعني إلقاء القضية أو الملف محل النقاش إلى جهة تتحكم في مصيره، تكمن في الأغلبية البرلمانية، التي تتحكم في التخريجة النهائية لنصوص القوانين، وفقا لنظرة السلطة. ومنعت مسودة الدستور، محل الإثراء، التجوال السياسي، لأول مرة، بعدما كان مطلبا حزبيا رافع من أجله “حزب العمال”، لكن المادة 100 مكرر التي أضيفت إلى المسودة في مادتها 28، أبقت على هامش “التحايل” للمرتحل السياسي، فهي تنص على أنه “يجرد من عهدته النيابية، بقوة القانون، المنتخب في المجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة المنتمي إلى حزب سياسي، الذي يغير خلال عهدته، الانتماء السياسي الذي انتخب بعنوانه من قبل المواطنين”، فبالإضافة إلى أن نص المادة يخص فقط المنتخب في المجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة، دون المنتخب في المجلس الولائي أو البلدي، رغم أنه انتخب بعنوان حزب معين، فإن تقيد في منعها التجوال السياسي، فقط خلال العهدة الانتخابية، لا يكفي لتحقيق الغرض من المنع، طالما أنه يمكن لأي منتخب أن يغير وجهته السياسية، بين العهدتين الانتخابيتين، ثم إن أكثر المرتحلين السياسيين من النواب لا يفعلون ذلك خلال سريان العهدة الانتخابية، ولكن، قبيل الانتخابات، ويسري هذا الواقع على الغاضبين من أحزابهم، علاقة بترشيحهم ومراتبهم في القوائم، وعلاوة على ذلك، فإن المادة المذكورة أحالت تطبيقها إلى قانون عضوي، حيث يمكن للمشرع أن يخضعه لرغبات أغلبية برلمانية تعبر عن إرادة السلطة التنفيذية وليس السلطة التشريعية. وسجل في مسودة لجنة عزوز كردون، ما يشبه انفتاحا على المعارضة، عبرت عنها المادة 99 مكرر 1، التي تقول: “تخصص كل غرفة من غرفتي البرلمان جلسة شهريا، لمناقشة جدول الأعمال الذي تعرضه مجموعة برلمانية من المعارضة”، وهذه المادة أيضا مرهون تطبيقها بقانون عضوي، من حيث يمكن للأغلبية داخل البرلمان رفض جدول أعمال المعارضة، التي عادة ما تمثل الأقلية، وقد يتكرر الرفض كلما كان مقترح المعارضة لا ينسجم مع توجهات الأغلبية، وخاصة إذا كان الوزير الأول من كيانها، وينطلي هذا الوضع كذلك على المادة 99 مكرر المضافة إلى الدستور والتي تنص: “يخصص المجلس الشعبي الوطني جلسة، في كل دورة، لمراقبة عمل الحكومة بحضور الوزير الأول وجوبا”، وينم ذلك عما يشبه “تجزيء” لبيان السياسة العامة المفترض أن يقدمه الوزير الأول وجوبا كل سنة، بينما لا تفرض مسودة الدستور حضور رئيس الجمهورية إلى البرلمان، كما يحضر الوزير الأول، رغم أن الأول منتخب، وهو المسؤول الأول أمام الشعب الذي انتخبه. ومن أهم ما يلاحظ كتنازلات من قبل السلطة، توسيع دائرة الإخطار للمجلس الدستوري، من حيث تمكين النواب وأعضاء مجلس الأمة من فعل الإخطار، لكن المادة 166 المعدلة، تشترط توفر 70 نائبا أو 40 عضوا بمجلس الأمة، لإخطار المجلس الدستوري، مع أن إمكانية جمع 70 نائبا صعبة، خاصة بالنسبة للمعارضة التي تمثل الأقلية، (إلا إذا كانت هناك تكتلات جادة وصارمة)، أما الأغلبية فهي ليست في حاجة إلى الإخطار، ما دامت تمثل “الحزب الحاكم” والخادمة لحكومة، يتمتع مسؤولها الأول، ذاته، بحق الإخطار، أما ما يتعلق بمجلس الأمة، فإن تحديد عتبة ال40 عضوا، لا يفي بسهولة، بحق إخطار المجلس الدستوري، علما أن ثلث مكون مجلس الأمة يعينه الرئيس (الثلث الرئاسي) أما حزبيا، فليست هناك تشكيلة سياسية تحوز هذا العدد. ولهذا السبب أيضا، يصطدم فحوى مسودة الدستور، الذي يقر حق المبادرة بالنسبة لمجلس الأمة في اقتراح مشاريع القوانين، ما يعني أن هناك دوما “عاملا كابحا” للمشاريع التي تقدمها المعارضة. ووسعت تشكيلة المجلس الدستوري إلى 12 عضوا، بدلا من 9، ومنح للرئيس تعيين أربعة أعضاء من بينهم رئيس المجلس ونائبه، أي أن ثلث تركيبة المجلس بيد الرئيس، ما يعني استمرار هيمنة ظلال السلطة على أهم هيئة فاصلة في الدولة. ويظهر من خلال وثيقة المقترحات الدستورية، أن ثمة محاولات لتقديم تنازلات، لكن هذه المحاولات شابها “ارتباك”، من خلال ما لمس من “محاولة منح أفضلية للمعارضة من جهة، وتقييدها من جهة أخرى”، ومن خلال محاولة المضي خطوة من أجل الفصل بين السلطات، لكن من جهة أخرى، لوحظ رغبة في منح أفضلية للسلطة التنفيذية، من خلال المعالجة اللاحقة لمواد لا تطبق إلا بقوانين عضوية، لا تخلو من ظلال هيمنة هذه السلطة، طالما أن مشاريع القوانين العضوية تعرف، أكثر من غيرها، مسارات معقدة، تنتهي عند المجلس الدستوري، السيد في إدخالها حيز التنفيذ أو إبطالها، وحتى وإن كانت المسودة المقدمة مجرد مقترحات قابلة للإثراء.