عن أي شيء أتساءل؟ عن أي مفتاح أبحث؟ أين الضوء؟ ما هي الينابيع التي أحاول أن أحييها؟ ما هذه النوفمبرية؟ أي شيء هي هذه المرجعية التي يريد المتوّج في 17 أفريل 2014 أن يجفّف ينابيعها؟ ولصالح من؟ ومن أجل من؟ تساؤلات مخيفة وواعية ومصيرية. تساؤلات واعية أندهش حين لا يعرف “الملك المتوج”: إن التاريخ ليس هو الكذب والدجل، وإنما هو المصير المأساوي الذي يصل إليه الدجال، كيف نقترب من لحظة التجلي النوفمبري الذي انساب شعاعه من أريس بالأوراس الأشمّ؟ كيف نقترب من لحظة اليقين التي تجلّت في الشمال القسنطيني بهجومات 20 أوت1955، والتي قطعت خط الرجعة على المترددين، كيف نقتبس من نور مؤتمر الصومام الذي كان صمام الأمان للمحطتين السابقتين، أين محل الملك المتوج من الإعراب من هذه المحطات التاريخية التي أعادت إلينا كياننا الحضاري والتاريخي؟ كيف نحاول العودة إلى معبد النوفمبرية؟ ما هي شروط الطهارة؟ ما هي طقوس المعبد؟ من الذي شيّد أسسه وبأي ثمن؟ ومن هم الذين سقوا أرضه؟ كيف سنطهّر هذا المعبد؟ من سيحل الرشاد فيه؟ متى سنعرف من أتى بهؤلاء وما هو تاريخهم ومتى علبوا إلينا؟ متى سنفهم نواياهم المبيتة منذ ما يقرب عشرين سنة؟ تأوهات نوفمبرية ملحمة نوفمبر مثقلة باستحقاقاتها البطولية والحضارية، فهل من متسول يجني ويفتخر ويفاخر بها الملاحم الأخرى؟ أليس من بين المتسولين حضاريا، والمعتوهين ثقافيا، واللقطاء تاريخيا من يقطف ثمار هذه الملحمة، ويريحها من أعباء هذه الاستحقاقات، ويريح نفسه من أمراض التبعية التي شوهته؟ ملحمة نوفمبر رازحة تحت ملحمة الملاحم البطولية قلّ مثيلها في التاريخ الحديث والمعاصر، فهل من جبان ومهلوس من يملأ قلبه ويخفف من حملها ملحمة نوفمبر طافحة من نشوة الانتصارات فهل من ظامئ يسكب ويرتوي؟ إن العزة التي منحتها ملحمة نوفمبر للأمة الجزائرية عزة أخرى لا تستطيع “فرنسا التاريخية”، بل ولا يستطيع العالم كله أن ينال منها منالا.. إنها عزة لا ينال منها سوى المرتدون حضاريا، والمتساقطون في طريق الملحمة، أو المهرولون لنيل رضا فرنسا التاريخية، أو الهاربون من المسؤوليات التاريخية الثقيلة. إن الخيانة التاريخية منقطعة، والمصير إلى البيان النوفمبري خالد إلى يوم الدين، فويل للمرتدين حضاريا، وويل للمطبّعين مع فرنسا التاريخية. لقد كنا أذلاء فأعزنا اللّه بملحمة نوفمبر، ومن يبتغ العزة في غيرها أذلّه اللّه، وعليه لعنة التاريخ إلى يوم الدين. ها هي أمة الملحمة النوفمبرية تضلل حضاريا وتقهر فكريا، وتمنع من هويتها ويحال بينها وبين بيانها الذي خط بدماء الشهداء: [إعادة بناء الدولة الجزائرية.. ضمن المبادئ الإسلامية] ويخترع لها بيانا فرانكفونيا متوسطيا متصهينا، وتدبج لها هويات، ويتسول لها ثقافات، ويخترع لها سدنة وآلهة، ولهذا تاهت وتمزقت واختنقت، وشبّ في قلب استحقاقاتها التاريخية الحضارية حريق، فوقعت على قارعة الطريق تبسط نحو العابرين يدا مفعمة بالانتصارات وتناديهم قائلة: ألا فارحموني وخذوا مني هذه الانتصارات. أشفقوا عليّ وخذوا جميع ثرواتي، أما السائرون فلا يلتفتون. نوفمبر ذاكرة تاريخية وملحمة حضارية: من الحقائق المتعارف عليها: أن التاريخ، بقسميه العام والخاص، هو نتاج عقول أجيال متعاقبة ومتكاملة، وخلاصة بطولات ملحمية لأبناء الأمة الواحدة عبر مراحل تاريخية تزدهر حينا، وتنحدر حينا آخر، توضع تحت تصرف جيل في خدمة حاضر الأمة وبناء مستقبلها، فهو من هذه الناحية: اجتماع العقول في عقل، واختصار للأعمار في عمر، واستحضار للزمن بقرونه المتطاولة في عصر. لهذا ما لم تكن الأمة، لسبب أو لآخر مصابة بفقدان المناعة التاريخية مما يجعلها تقرأ تاريخها قراءة مغلوطة، ولا تستطيع أن تهضم ملامحها، وتفسرها تفسيرا بعيدا عن الحقائق التي صنعت تاريخ الأمة، فيزيد ذلك في ضلالها وإذلالها، وبذلك تعيش الأمة تائهة مترنحة كالشجرة التي اجتثت جذورها. وإيمانا من شرفاء الأمة ومؤرخيها النزهاء أن ثورة نوفمبر ستبقى على مرّ العصور والدهور المثل الأعلى في التضحية والجهاد في سبيل حماية هذا الوطن- الأمة من أطماع الغزاة الصلبين وتواطؤ الوجوه المستعارة. وللتذكير والتذكر، والذكرى تنفع ما تبقى من النوفمبريين الشرفاء فإن ثورة نوفمبر في أبعادها التاريخية تحمل معان كثيرة من أهمها: أنها تذكرنا كيف كانت الجزائر “الدولة الأمة” قوية عظيمة ذات سيادة أرضية وحضارية تبسط نفوذها وهيمنتها على البحر الأبيض المتوسط طيلة ثلاثة قرون ونصف من 1525 – 1830. كما تذكرنا بما تعرضت له من مآس في مطلع القرن 19، حيث استطاعت الدوائر الاستدمارية المتربصة بها، بالتعامل والتعاون مع العملاء والخونة وعناصر من “اليهود”، أن تزعزع كيان الدولة - الأمة وتفتت قواها الداخلية وتضعفها عن طريق التغلغل في أجهزتها وإفسادها. والوصول في النهاية إلى فرض وضع معين على البلاد يتمثل في زعزعة الأمن والاستقرار وتغذية الفتن قصد تفتيت شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة الواحدة حتى يسهل الاستيلاء. وبذلك تمت تهيئة الجزائر الدولة الأمة لوضع جديد هو الاستدمار الفرنسي وزوال الدولة الجزائرية، حيث اغتصبت الأرض، وانتهكت الحرمات، واستبعد الشعب وشرد وقتل ونفي، واضطهدت اللغة العربية، واعتدي على الدين الإسلامي، والمقدسات، وحوّلت المساجد إلى كنائس وإسطبلات لخيول الفرنسيين، وفقدت الأمة الجزائرية في ظل هذا الاستدمار كل ما تملك ولم يبق لديها سوى إيمانها بربها وحبها لوطنها. ولأنه كان استدمارا صليبيا حاقدا تدفعه روح الثأر والانتقام من الأمة الجزائرية ودولتها التي كانت لا تقهر فكان هدفه محو مقومات الشخصية والخصائص الحضارية للأمة الجزائرية، وذلك قصد تمسيحها وتنصيرها ثم ابتلاعها نهائيا. لأن احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 جاء تنفيذا لخطة مرسومة تقتضي بإعادة شمال إفريقيا لاتينية كما كانت قبل الإسلام وبروح صليبية حاقدة، وهذه ما يؤكده “جان بوجولا” بصريح العبارة: “إن احتلال الجزائر كان استمرارا للحروب الصليبية”، وتؤكد جلّ النصوص التي كتبها الفرنسيون والتي تعكس الروح الصليبية الحاقدة، وتصرفاتهم توحي بذلك، كالاستيلاء على المساجد وتهديمها، وتحويلها إلى كنائس، وإقامة القداسات، وصلوات الشكر، والحفر على بقايا المسيحية منذ عهد الرومان، واسترجاع السيطرة المسيحية، والذين يفهمون هذه المؤشرات التاريخية يمكن أن يعرفوا أن الجزائر في ظل سياسات ما بعد الإرهاب المفروض علينا جميعا من دوائر حاقدة علينا، تعيش الملابسات نفسها، وأن الصيرورة التاريخية للمشروع الاستدماري الصليبي الذي كان يهدف إلى تخريب الهوية الوطنية قصد الإبادة الحضارية، مازال مستمرا في نتاج صيرورة تاريخية تتولد عنها تجديد المخططات، وتضمن استمرار هذا المشروع. وكانت زيارة شيراك في مطلع الألفية الثالثة بمثابة استحلال ناعم للجزائر، وما استقبال الجماهير له في باب الوادي، والأعلام الفرنسية التي كانت ترفرف على كل الشرفات، بينما كانت أعلامنا منكسة تعبر عن غضب الشهداء في هذه الزيارة المخزية والمؤلمة، حيث تناغمت أصوات الجماهير المغلوبة على أمرها، مع هيمنة شخصية الرئيس الفرنسي، الذي جاء ليؤكد أن الجزائر مازالت فرنسية، وأن الأصوات التي هتفت بحياته تعبر تعبيرا صادقا على أن فرنسا مازالت في قلوب الوجوه المستعارة، المعلبة إلينا من مخابر أجنحة المكر العالمي المتصهينة. وإذا رجعنا إلى توزيع الهدايا، التي كان فيها شيراك يحتكم إلى الدلالات التاريخية، المؤذية لنا ولتاريخنا، حيث قدم خاتم الداي حسين إلى “فخامته”، هذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الدولة الجزائرية ستهترئ بالفساد، وإشاعة الفاحشة الحضارية، وستتولى فرنسا شؤونها، لكن هذه المرة ستدرس الخطة في “مصحة لي زانفاليد في باريس”. وإن دل ذلك فإنما يدل على أن جيل ما بعد الإرهاب وضع أصابعه العشرة في شقوق الفجوة بين الشعارات والوقائع، فسقط البريق عن “جزائر العزة والكرامة” في أوحال الذل والمهانة، وسقط البريق عن استرجاع سمعة الجزائر الدولية في أمواج المتوسطية المتصهينة، وسقط بريق استرجاع هيبة “الدولة” في أوحال الثراء الفاحش والتوحش المجنون في صنع الثروات الخيالية، وبذلك استبدل “أمراء الموت” ب«أمراء الفساد”، وكلاهما متمم للآخر ويقوم بالمهمة نفسها لإخراج الجزائر من الدائرة الحضارية والتاريخية. وكانت الازدواجية الخطابية هي الثغرة الواسعة التي سقط منها الإيمان ب«الشعارات المعلنة” و«المثل العليا الشائعة”، وإذا شئنا متابعة التغييرات الطارئة على المخيلة الجزائرية خلال أكثر من عقد من الزمن هي متوسط أعمار شباب جيل المحنة الدموية، فإن شعار “كسر الطابوهات” هو نقطة البداية أو تاريخ الميلاد لهذه الموجة المجنونة من الأحداث والأفكار والوقائع التي فاجأت الجيل وهو يفتح عينه لأول مرة وهو يحبو على الدماء التي أسالها الأعراب والأغراب، وراء جحيم من النيران تلتهم الجزائر تحت رايات متعددة الألوان، ومزورة ولم يفسر له أحد أنها مزورة، ورأى حربا تشن على لسانه وثوابته تحت رايات متوسطة زائفة، ولم يفسر له أحد كيف أنها زائفة. ثم رأى غزوا غير مسلح من التنصير والتطبيع، ثم حربا على منظومته التربوية تصطف فيه كل أجنحة المكر متعددة الجنسيات والأديان تحت رايات مختلفة الألوان. ولا أحد يفسر ما تخفيه الرايات وما تحجبه الألوان. وهكذا وجد الجيل الجديد نفسه في ظل سياسات ما بعد المحنة الدموية في العراء المطلق، بين المجازر الوحشية التي ارتكبها “الأعراب” و«الأغراب”، وجحيم الفساد المبرمج الذي جاء كسياسة لجعل الشعب الجزائري “حيوانات برؤوس بشر”، والفراغ الفكري المخيف الذي أحدثه كسر الطابوهات، وحربا على استحقاقات الأمة وتشويهها في الداخل بأوامر من الخارج. والإرباكات التي أحدثتها التغييرات الأخيرة في مؤسسة سيادية حافظت على وحدة الجزائر في المحنة الدموية، ودفعت النفس والنفيس من أجل أن تبقى الجزائر واقفة بعيدة عن أيادي أجنحة المكر، التي أرادت أن تتسلل في المحنة وتؤجج نار الفتنة، لكن هذه الأجنحة باءت مكائدها بالفشل الذريع، لكن أحقادها بقيت راسخة فانتقمت من هذه المؤسسة التي أرادت أن تحارب الفساد كما حاربت الإرهاب. والذين يدّعون أنهم نوفمبريون، ثم لا يتصدون إلى هذه الملابسات التاريخية، سيجدون أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، وينطبق عليهم قول النبي عليه السلام: “من أعان ظالما سلّطه اللّه عليه”. والذين يفهمون دلالة هذا الحديث ولا يصرخون في وجه هذا الظالم المرتد حضاريا والممسوخ تاريخيا، صراخا، ويقاومونه مقاومة واعية، هم مرتدون كل الردة، وسيدفعون الثمن غاليا من الناحية التاريخية. خاتمة ملحمية الدنيا خريف، وغيوم الحقد والطغيان تهتز طربا في سماء نوفمبر، وليس هناك من يبدد هذه الغيوم إلا مناجاة أرواح الشهداء الميامين، ولم يبق لأمة نوفمبر إلا الصلاة، ولم يبق لها من الكلام إلا اللعنة على الانتقام الطغياني والمتخاذلين معه من الطبّالين بالأصل والممارسة. يا شهداء الملحمة، إذا كنتم أحياء عند ربكم فكونوا طيرا أبابيل ترمي الطغيان وتجعله كعصف مأكول، أو كونوا سيلا جارفا تجرف الطبّالين والمزمّرين، وإن لم تكونوا كذلك ولم تلبوا لنا هذه الدعوة فإننا سنترك الطغيان والمطبّلين لعذاب الضمير ولعذاب السماء التي بخلت علينا بالماء، سنتركهم للعنة النوفمبرية الأبدية السرمدية الخالدة. إنها لعنة تصيب المطبّل والمطبّلين وتصيب العقل والجسد، وتحرق النسب إن كان هناك نسب وتحرق ما تبقى من البلد. لقد تأوّهت النوفمبرية، وبكت واستجارت فسمعت السماء دعوتها، وبدأت ضربات السماء تنهمر فوق رؤوس الوجوه المستعارة، لكنهم لا يدركون ذلك، لأن النوفمبرية مسختهم قردة خاسئين. ومع الوقت والخطوات والضربات سيدرك هؤلاء أن للنوفمبرية لعنة وصوتا أقوى من صوت المتوسطية المتصهينة. لأن نوفمبر إرث حضاري عريق وملحمة أمة لا تحب الذل والهوان وبيان ثابت مشترك بين جميع أبنائها بكل أطيافهم فهو تماسك وتعاضد، فمن فصم البيان بعد توثيقه فهو جزائري من غير ثورة ومسلم بلا إسلام وعربي من غير شرف، وأمازيغي بلا إباء. كيف سندخل إلى معبد النوفمبرية؟ ما مقدار الخشوع الذي نحتاج إليه في صفوف المتعبدين فيه؟ هل في هذا المعبد صفوف؟ أم قوافل من الشهداء كتبوا بدمائهم: إعادة بناء الدولة الجزائرية.. في إطار المبادئ الإسلامية؟ بأي ثمن سنسترجع ما تم تضييعه؟ الإجابة تكون بسؤالين عرفانيين آخرين، مفادهما كيف نأخذ بيد هذا الشعب المقهور حضاريا، والمغيب تاريخيا إلى معبد النوفمبرية، إلى الخشوع والإجلال والجمال النوفمبري الخلاق؛ إلى إبداع البطولات الواعية التي تتجنب محاذير أجنحة المكر العالمي المتصهينة، كيف نحيي نبضات قلب هذا الشعب وخفقات نفسه الوثابة إلى التحرر؟