في أحد الأيام ألقيت محاضرة عن أدوار الشباب في الأمة الإسلامية وفصلت في الأدوار الثقافية والسياسية، وبعد فراغي من المحاضرة واستعدادي للمغادرة قدم إليّ بعض الشباب المتحمس للعمل السياسي والمساهمة في بناء وطنهم ودينهم، ولم تظهر منهم معالم الانتماء والانتساب للمجموعات والجماعات، بل هم في ظاهرهم إرادات حرة وحيوية. تجاذبت معهم أطراف الحديث في هموم الوطن وخدمة الصالح العام، فقام أحدهم فطرح عليّ انشغالا مهما، وهو “نريد أن نمارس السياسة في وطننا. مع من نمارسها؟”، أخذت نفسًا عقليا وموضوعيا قبل الإجابة وامتنعت عن الإجابة الحزبية من باب الاستقطاب والتباهي بحزبي، بل توجهت نحو عرض الموجود من المسارات السياسية وأترك لهم الحرية في تحديد المسار السياسي الذي يساعد إرادتهم ومقاصدهم وطموحاتهم الشبابية. قلت لهم إن الجزائر تحمل كل التوجهات السياسية ومختلف الإيديولوجيات، لكن التباين البارز ليس محصورا في هذين الأمرين، بل في طبيعة وخلفية الممارسة السياسية التي لا تعطي للتوجه السياسي والإيديولوجي معنى ومدلولا في الواقع، فنتج عن ذلك الحكم القاسي من غالب الشعب “أن السياسيين كلهم سواء لا يريدون سوى كرسي الحكم”، فقلت لهم: أعرض عليكم المسارات السياسية مع بعض مظاهرها ومعالمها، وقد أكون مخطئا في بعضها أو متجنيا على بعضها الآخر.. المهم يرجع لكم الأمر في النهاية بعد المتابعة والمعاينة. أما المسارات السياسية الموجودة، هي، في نظري، كالآتي: - مسار صوت سيده أو التبيع السياسي، وهو مسار أصحابه لا يقررون فيه ولا يتمتعون بالاستقلالية الكافية، ولا مجال للإبداع السياسي عندهم، والاجتهاد أمر مستغرب عندهم، ومنكر يتعرض أصحابه للتهميش والإقصاء، بل حتى الفصل، ولا قدرة لهم على التطوير والتجديد. وهو مسار قائم في الغالب على الانتظار والترقب، ورؤوس قادته مشدودة للفوق وليس للأفق، لا يشعر المنتسب لهم بالنمو والارتقاء، إنما يشعر بالارتهان للغير ويصير حبيس حاجة الغير إليه. منهجيته تبرير ما لا يبرر، والنطق بلسان السيد دون الحاجة لسماعه، ولهم تحليل المبسوط، وتعقيد المعقود، وتسطيح القائم، وترويج ما لا يقوى على الإقناع. وهذه بعض مظاهر هذا المسار ولكم النظر والحكم. - مسار التقاعد السياسي واللجوء السياسي، أصحابه ورواده من الذين أدركوا بعد نهاية مشوارهم المهني في دواليب النظام أن لهم دراية بكثير من القضايا، ولم يتمكنوا من تحقيق بعض طموحاتهم في مشوارهم، ومنهم من تعرضوا للضيق والحيف والطرد المشين، فلجأوا لممارسة السياسة في شكلها الاعتراضي، وليس المعارضة لأن ذلك يتطلب منهم مسارا ونضالا ورؤية ومشروعا وتقاليد. فمسارهم قائم على الاعتراض والإحراج، وهو حبيس الماضي وحساباته الشخصية. وأصحاب هذا المسار غالبا لا يعالجون الأوضاع السياسية، بل يشخصون الأوضاع، ويتشفون ويرهنون من ينتسب لهم بما فاتهم، وحدث لهم في مشوارهم. هذا المسار يتجه إليه المتقاعد والغاضب والمطرود من باب “شد يدك حتى تجينا ساعة هنية ولا إجيو أصحابنا”. - مسار المراهقة السياسية والمشاكسة، وهو مسار سياسي له حضور إعلامي بارز على صفحات الحوادث والقضايا العامة، لأن أصحابه يرغبون في الإثارة والبروز وتسجيل أسمائهم في قائمة الإزعاج العام، ولا يحسنون الاستقامة السياسية، يبحثون باستمرار عن خصوم أو عن قضايا الشاردة أو الواردة ليبرزوا بها. لا يريدون إلا الصفحة الأولى من الجريدة، ويعشق أصحابه الجدل مع عدمية الحجة وضعفها. أما الخطاب السياسي لدى هذا المسار فيفوق قدرته العقلية والسياسية والنظامية، فهو خطاب مراهق يضع نفسه في حجم خطاب المسن ذي تجربة وخبرة. خطابه عبثي، يعتمد على القسوة اللفظية، وتنعدم اللباقة واللياقة فيه، فهو يتصور أن هذا النوع من الخطاب يلتفت إليه الناس فضلا عن النخبة والحقيقة. هو خطاب عدمي يخفي الخوف والتوتر والفشل، كحال كل مراهق. الإعلام يتعاطى مع مسار المراهقة السياسية لأنه يوفر لهم مادة إعلامية تجعل المردود التجاري قائما. إن المراهقة السياسية ترهق أصحابها، لأنها تشتت جهودهم وتفتح عليهم خصومات عديدة ومتنوعة بأحجام مختلفة ويضيع عندهم الهدف السياسي والمنطق السياسي، ويحدث فيهم التنافس على من هو أكثر مراهقة من الآخر، فيكون هناك تسابق على الإثارة والظهور، ومن هو أكثر ثراء لفظيا في السب والعبث. - مسار الصالون السياسي أو رجع الصدى. يمتهن أصحاب هذا المسار سياسة القاعات المغلقة أو الصالونات ويعتمدون التحليل السياسي الافتراضي للواقع السياسي القائم دون امتداد وعمق نضالي في الساحة، يملأون الساحة بالبيانات والتصريحات الصحفية، وينطقون باسم الجسم ولا يملكون منه إلا اللسان. وهذا المسار رهينة المعلومة والمعلومة المضادة يعيش هاجس الجمهور مثله مثل المنادي في الجبال، يحسب رجع الصدى تجاوب الناس معه، فينتج ذلك عندهم وهما سياسيا، ويمارسون السياسة كالفروسية قفزا على الحواجز، وهي قفز على الحقائق الاجتماعية والسياسية في الواقع ويمارسونها كالركض بالفرس في مضمار الفروسية، له بداية ونهاية، وهو مغلق، وفي الأخير لا نعرف هل الفرس كان يركض أم الفارس هو الذي كان يركض بالفرس؟ فهو مسار مغلق بلا أفق ولا امتداد. مسار مليء بالهواجس والأوهام والمخاوف، فلا نتوقع منه انفتاحا أو تواصلا وعنده مواصفات ضيقة في التعامل السياسي، منها أن كل من يخالفهم في الرؤية فهو مرفوض، ويخشون من الاستقلالية والتعبير المنفرد، ويميلون للأحادية كصورة للتماسك، وفيهم هاجس السلطة، وكل ما يأتي من عندها وكل من يخالفهم، يتّهم ب«التشويش”، وهي عبارة استعملها الحزب الواحد أو الحزب الشيوعي والنظام السوفياتي أو المعسكر الشرقي، أو نظام فيدال كاسترو الكوبي مع المخالفين. وأذكر جيدا أن الشيخ محفوظ نحناح، رحمه اللّه، اتهمه النظام البومديني أيام الحزب الواحد لما خالفه وعارضه ب«المشوش” و«الرجعي” و«الإخوانجي”، نسبة للإخوان. تفضل الاستبداد والتفرد والقفز على المؤسسات والنرجسية، يقلقها الرأي المخالف، وهي في نظر المستبد تشويش. -مسار العمق السياسي والنضج، وأصحاب هذا المسار يملكون نضجا سياسيا في التعامل مع الواقع السياسي، ويعملون على إنتاج البديل السياسي من خلال الحراك السياسي لتفادي الانسداد السياسي، ويسعون للعمق السياسي بالتواجد النضالي والانتشار، ويعملون على استيعاب الحقائق كما هي موجودة، لا يعمدون للقفز عليها، بل يسعون للتكيف معها بالتوازنات السياسية المنبعثة من منظومتهم السياسية والفكرية والمستوعبة من تجليات الواقع السياسي. مثل هذا المسار يفتح عمقا أمام أنصاره للنمو والترقية والتطوير. ومن أبرز ما يتسم به هو قابلية التوسع والانتشار من حركية الحوار والنقاش الحر، ولا يلقي بالا لموضوع الأغلبية والأقلية، بل يهتم بالتوافق والانسجام، لأن أصحاب منطق الأغلبية يريدون إسكات الأقلية أو يمنعونهم الحق في الاعتراض والاختلاف، بل يريدون أكثر من ذلك القضاء عليهم، وإخراجهم وطردهم، وإثارة الإشاعات حولهم. أصحاب هذا المسار يريدون الذهاب للعمق في تحليل الوضعية السياسية وإيجاد الحل السياسي المناسب لها، ويعملون على إيجاد التوافق السياسي في العمق، ولا يميلون إلى الجذرية في الطرح والحل. فهم يشكلون مدرسة للاعتدال من خلال الإثبات وليس الإلغاء والنفي. مسار العمق يمنح الفضاء والوسع لكل رأي حر، فقد قال الشيخ نحناح رحمه اللّه تعالى “نحن وعاء لمن لا وعاء له”، ولكي تكون وعاء لمن لا وعاء له يجب أن تتمتع بالوسع الكافي. وفي مقدمة الوسع وسع الصدر، فلا تغضب ولا تنزعج ولا تتهور من الرأي المخالف لك، ولا تتهم أصحابه ولا تكيل الأمور بمكيالين. - مسار التنظير السياسي أو المطبعة السياسية. أصحاب هذا المسار يعملون على تكريس أكاديمية الممارسة السياسية فلا يتحركون بالممارسة، بل بالتنظير والإنتاج الورقي لفكرهم السياسي. كلما تحدثنا على الواقع السياسي، خرجت منهم النظريات والأطروحات السياسية الأكاديمية، وإن كانوا يفيدون المنظومة السياسية بالأبحاث والدراسات، فهم لم يتعدوا حدود أوراقهم وكتبهم، فهم عجزى أمام التقلبات السياسية والتطورات السريعة والوضعيات المستعصية والصعبة التي تفرزها الظروف المحيطة بالممارسة السياسية. اعتقد أصحاب هذا المسار أن أوراقهم تكفي للمعالجة السياسية، فتناثرت أوراقهم بأول مواجهة سياسية في واقعهم السياسي، مثلهم كالجامعي الجزائري يدرس أمور مخبرية أو ورشية دون مخبر أو ورشة، فرؤيته للعمل السياسي افتراضية مجردة عن الواقعية، أو كالمحارب يدخل ساحة الحرب بلا سلاح، ويحمل كتابا ضخما عن فن الحروب، وفي النهاية يكون اسمه مدرجا في عداد القتلى أو المفقودين. وفي الختام، عرضت عليهم مختصر المسارات السياسية في الجزائر، وتركت لهم كامل الحرية في القرار لممارسة السياسة، لأنني لا أومن بالشاب الذي يكون ظلا للخطأ والوهم والطمع ولسانه وعقله رهينة طمعه وحاجته، بل أريده رهينة عقله الحر وإرادته الصادقة في بناء وطنه وخدمة دينه، وتركت الشباب أمام قرارهم ومسؤوليتهم. وفي النهاية، لا أريد من الشباب أن يكونوا تبّعا لي، وإنما أريدهم للإسلام والجزائر والقضايا العادلة في العالم وفي مقدمتها فلسطين الجريحة.