ينتمي جهاز الراديو إلى وسائط الاتصال الجماهيري، الذي يهدف إلى بث الخبر والبرامج السياسية والاجتماعية والثقافية لقطاع واسع من الجماهير، وتكمن أهمية هذا الوسيط أنه يخاطب بالدرجة الأولى الجمهور بالاعتماد على اللغة الشفوية، التي تستهدف المتعلمين وغير المتعلمين على حدّ سواء، عكس الخطاب المكتوب في الصحافة المكتوبة، حيث شريحة كبيرة من غير المتعلمين يحرمون من قراءة الجرائد. لكن الأهمية القصوى تكمن في قدرة هذا الجهاز على الدخول إلى بيوت الناس، والتسلل إلى داخل أنظمتهم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ناهيك عن قدرته في صياغة الخبر والتأثير على الرأي العام. التقنية وأنظمة التمثيل لقد وعى المستعمِر بهذا الدور الذي يمكن أن تلعبه التقنيات الحديثة في الاتصال في فرضه السيطرة لا على الأشخاص بل على وعيهم. والمتحكم في التقنية هو المتحكّم في صناعة الخبر والحدث التاريخي، والقادر على صياغة الوعي العام بما يخدم المصلحة العامة أو الايديولوجيا السائدة. وقد أدرك فانون أنّ جهاز الراديو فتح مجالا جديدا للصراع أو بالأحرى أوجد نوعا جديدا من الحروب هي “حروب الموجات” أو la guerre des Andes، يتمثّل مجالها في فضاءات القيمة، الحدث، اللغة، المخيال.. فابتداء من 1954، كان على الثورة أن تنتبه إلى أهمية التقنية في إنجاح مشروعها الثوري، فالمعارك ليست فقط تلك التي تدور رحاها في الجبال أو في المدن، لكنها أيضا معركة ثقافية ومعركة لغوية. “بالنسبة للجزائري، ولأجل حمايته الذاتية وتجنب ما يعتبره مراوغات خادعة للمستعمِر، أصبح منذ الأشهر الأولى للثورة أكثر حاجة إلى امتلاك مصادره الخاصة للمعلومات، لمعرفة ما الذي يحدث، ومعرفة الخسائر الحقيقية في صفوف العدو وكذا في صفوف المجاهدين. كان الجزائري في هذه الفترة في حاجة إلى نسج حياته لتكون في مستوى الثورة. كان في حاجة إلى الدخول في الشبكة الواسعة للخبر”، حسب فانون. كان المصدر الوحيد للخبر هو ما تبثه أجهزة الإعلام الاستعمارية، والتي تعمد بشكل مخادع على تزييف الحقائق، وعلى تشويه الحقيقة: حقيقة الثورة التي كانت تسميها بالتمرّد، وحقيقة المجاهدين التي كانت تسميهم بالعصابات أو الفلاقة أو الخارجين عن القانون. أضف إلى ذلك ما تقدمه من اخبار حول مجريات المعارك. لقد تحوّلت فجأة نظرة الجزائري إلى هذا الجهاز الذي كان إلى وقت ليس ببعيد جهازا لعينا لا يمكن الائتمان عليه، ليتحوّل إلى نافذته على التاريخ وعلى الثورة، و«صار للجزائري الذي كان حلمه أن يعيش في نفس مستوى الثورة، إمكانية السماع إلى الصوت الرسمي للثوار، ليشرح له المعركة، ويروي له سيرورة تاريخ التحرّر، ويجعله في الأخير جنبا إلى جنب مع النفس الجديد للأمة”. الاستعانة بالراديو كان لها تأثيرها السيكولوجي الذي يتمثل في القدرة على الإنصات إلى الذات، والتواصل معها بعد أن كان ذلك في السابق غير ممكن، بسبب تحكم الاستعمار في أنظمة الاتصال. كانت الثورة في حاجة إذن إلى نظام قوي للاتصال لأجل أن تكون محفزا في نفوس الجزائريين الذين لم تسعفهم الظروف للمشاركة في المعارك، فكانت اخبار المعارك تغذي مخيلاتهم، وتذكي فيهم جذوة الانتصار والأمل في التحرّر. تحرير اللغة الفرنسية من عصابها الاستعماري كتب فرانز فانون محللا: “أصبحت اللغة الفرنسية أيضا أداة للتحرير. في حين إنّه في أعراف علم النفس فإنّ كل صوت فرنسي، في أي هذيان، هو تعبير عن الرفض، وعن الإدانة وسبب للإحساس بالعار، كل هذا نراه ينقلب مع ثورة التحرير”. استعادة الجزائري لثقته بجهاز الراديو كان مرحلة لتجاوز الصورة الهذيانية التي كان يحملها عن “الصوت الفرنسي” أو بالأحرى عن “اللغة الفرنسية”، قبل ذلك كانت الفرنسية بالنسبة للجزائريين تعبّر عن الاستعمار وعن النفي والرفض، وكانت سببا كافيا لإحساسهم بالعار، فقبل 1954 كان استعمال جهاز الراديو طريقة لتسلل كلمة المستعمِر إلى داخل النسيج الاجتماعي للجزائريين، بكل ما كانت تحمله من دلالات ايديولوجية، غرضها كان تجفيف الجزائريين من الوطنية والتعلق بقضاياها. كان وجود الراديو وحده يعطي انطباعا بأنّ الذي يستمع إليه سيخضع آليا لعملية “أوربة” مبرمجة، كنوع من الحصار الداخلي الذي فرضه هذا الجهاز عليهم. كان بث برامج إذاعة الجزائر المكافحة باللغة الفرنسية قد حرّر هذه اللغة من دلالاتها التاريخية، وفقدت مع مرور الوقت طابعها الاستعماري، وأضحت على عكست ما كانت عليه في إذاعة الجزائر الفرنسية وسيلة لنقل الحقيقة، وأداة لتحرير التاريخ من الزيف والأوهام. إنّ تخليص التقنية من علاقتها الآلية بالاستعمار قلب المفاهيم الكولونيالية عن المستعمَر، وأصبح لهذا الأخير نظامه الاتصالي الخاص به، وصوته الذي تمكّن من خلاله من التقدم بخطوات مهمة نحو تحرير التاريخ من السردية الاستعمارية. فبفضل هذه التقنية تطوّرت أنظمة التواصل عند المستعمَرين، حيث كان الخبر يتنقّل تقليديا من خلال ما سماه فانون ب«الهاتف العربي” أي الخبر الذي يمر من الفم إلى الأذن، وهو نظام تقليدي للتواصل، لكنّ هذا الجهاز مكّنهم أخيرا من متابعة أطوار صناعة التاريخ، و متابعة انتصارات المجاهدين في الجبال والفدائيين في المدن، وكانت تصلهم أعداد القتلى من الطرفين، والأهم من ذلك، أن الراديو كان يجعل الجزائري في مجاورة مستمرة مع الحدث، ومع عملية تحرير الأراضي من ناهبيها التاريخيين.