مُعاداة الرّسل عليهم السّلام وإيذاؤهم، أمر يُحزن المؤمنين ويجرح مشاعر الصّادقين، ولكنّه سُنّة الله في الأوّلين والآخرين، قال الله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَّ" الأنعام:112. لو شاء الله سبحانه لأخرس كلّ لسان يشتم نبيًّا، ولو شاء سبحانه لشلّ كلّ يدٍ تنال رسولًا بأذًى، وذلك قبل أن يتفوّه اللّسان أو تتحرّك اليدان، ولكن الله سبحانه قضى ذلك ليعلم المؤمنين، وليعلم الكافرين ويرفع درجة المرسلين، أمّا المؤمنين فيَظهرُ صدق محبّتهم من خلال كفّ الأذى عن الأنبياء ونُصرتهم بكلّ الوسائل المشروعة في حقّهم بدءًا من الكلمة، كما كان يفعل حسّان بن ثابت رضي الله عنه، وقد قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ” متفق عليه، وفي رواية لمسلم: عن عائشة أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: “اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ”. فأرسَل إلى ابن رَوَاحَة فقال: “اهْجُهُمْ”. فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فأرسَل إلى كعب بن مالك، ثمّ أرسَل إلى حسّان بن ثابت، فلمّا دخل عليه قال حسّان: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثمّ أَدْلَعَ لسانَهُ فجعل يُحَرِّكُه فقال: والّذي بَعَثَكَ بالحقِّ لأفْرِيَنَّهُم بلساني فَرْي الأدِيمِ... قالت عائشة: فسمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول لحسّان: “إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ”، وقالت: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: “هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى”. وأدنى من الكلمة والكتابة الّتي ترد على المستهزئين بالمرسلين الإنكار بالقلب. والحكمة من تمكين الكافرين من أذية المرسلين ليشتهر أمرهم بين العالمين، من أنّهم ألدّ أعداء الله، وأنّهم يصدّون عن سبيل الله، وأنّ الله تعالى يريد أن يجعل منهم عبرة للعالمين، ثمّ إنّ الله سبحانه لمّا جعل للأنبياء أعداء من الإنس والجنّ إنّما يريد أن يبتلى المُرسلين، ويكتب لهم صبرهم وثباتهم، ويجعل من سيرتهم قدوة للمؤمنين، وغير ذلك من الحكم البالغة. وإنّ مِن أفضل ما يُرد به على المفترين الّذين يؤذون خاتِم الأنبياء والمُرسلين، ويكون فيه شفاء للمؤمنين، هو الاستشهاد بأقوال العلماء الغربيين، الّذين قالوا كلمة الحقّ في سيّد الخلائق أجمعين، من الوسائل الّتي يُرد بها على أدعياء الحضارة، الّذين يزعمون أنّ ما جاء به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيء متخلّف، وأنّه غير مناسب للحياة الّتي يريدونها، وأنّ الدّين لا يتوافق والحياة، وغير ذلك ممّا يقوله السّفهاء الّذين يحسبون أنفسهم من المفكّرين والمنظّرين، أن يُرد عليهم بكلمة بالغة الحكمة، يكون قائلها ذا شرف عالٍ ومكانة علمية عند المتهجّمين، فالردّ بالكلمة الصّادحة بالحقّ على الكلمة الزّائفة أقوى من ضربة سيف، وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ”. إنّ ما يشفي غليلَ المؤمنين، ويربطَ على قلوبهم، ويغيظ الكافرين، ويقطعَ أحشاءهم، أن نذكر شهادات علماء الغرب الّذين درسوا الحضارات، وبحثوا في سير الشّخصيات، وتابعوا كلّ حركة مؤثّرة في خطى البشرية، الّذين لهم وزن ثقيل عند كلّ مَن يعتز بعلوم الغرب وشخصياتهم، من الّذين خَلُصوا وتيقّنوا أنّ أفضل مُعلّم، وأعظم مؤثّر في حياة الإنسان، وأكمل شخص عرفته البشرية هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فلم يتوان كثير من المفكّرين منذ أن عرف الغرب نور الإسلام من اعترافهم بفضل النّبيّ العربي محمّدٌ عليه الصّلاة والسّلام في هداية البشرية، والانتقال بها من الشّقاء إلى السّعادة، ومن الظّلام إلى النّور، فمن أشهر المدافعين عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأديبُ الروسي (تُولْستوِي) الّذي انبهر بشخصية نبيّنا، حيث كتب مقالة بعنوان: (مَن هو محمّد؟) ثمّ قال: “إنّ محمّدًا هو مؤسّس ورسول، كان من عظماء الرّجال الّذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرًا أنّه هدى أمّة برمّتها إلى نور الحقّ، وجعلها تجنح إلى السّكينة والسّلام، وتُؤْثر عيشة الزّهد ومنعها من سفك الدّماء وتقديم الضّحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقيّ والمدنية، وهو عمل عظيم لا يقدم عليه إلّا شخص أوتي قوّة، ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال”. فهذا الكلام المتوازن يُرد به على كلّ مَن يُعظم الغرب وحضارتَه، وينتقد الإسلام ونبيّه، وللعلم هذا الأديب الروسي يحظى بمكانة عند قومه، لكنّه لمّا كتب هذا المقال أقدمت الكنيسة على إخراجه من رحمة البابا، ولم تحترم رأيه وما قاده إليه تفكيره، وهم اليوم يُقدّسون حرية الرأي والتّعبير ما لم تكن ضدّهم، ورحمة البابا إحدى الخرافات الّتي رفضها عقلاء غربيون كثيرون، وشنّعوا بها على رجال الكنيسة، وقالوا كلمة حقّ ولم يخشوا الطّرد من هذه الرّحمة الزّائفة بعدما اكتشفوا رحمة الإسلام الرّاسخة. *إمام مسجد الرّحمن - براقي