سؤال التاريخ مؤرق لكل العقول، ومقلق لكل وجه مستعار، ولا يعني طرحه في هذه المساهمة التناول التقليدي، الذي يفرغ التاريخ من أبعاده الثقافية والحضارية والروحية كما يتناوله أشباه بعض المؤرخين في "جزائر العزة والكرامة"، ولا البحث عن الأحداث الخاوية عن عروشها روحيا وثقافيا ومعرفيا، التي هي كامنة في تحقيق الانسجام الحضاري، الذي يعمل على إيقاظ الأمة من غفلتها، مبصرا إياها بما يحيط بها من مخاطر. ومن هذا الوعي التساؤلي نزيل الركام الذي آلت إليه "جزائر العزة والكرامة" بالمكون الديغولي، لكي نوقظ ما تبقى من الشرفاء الغرباء، ونوضح لهم أن البديل النقدي والوعي بالتاريخ عن طريق التساؤلات هو الذي ربما سيحمي الجزائر من المآلات المفتوحة على كل المخاطر المبرمجة من المكون الديغولي. بتساؤلاتنا التاريخية سنكشف عن الوضع الحقيقي لما تعيشه الجزائر، وسنزعج مسببي هذا الوضع، الذي تشارك فيه فرنسا بمكوناتها الديغولية وأطماعها الحالية في العودة إلى الجزائر بملابسات العولمة التي تهدد كياننا. ونعتقد أننا باستقراء لمراحل تاريخ المكون الديغولي، بصفاء وموضوعية اجتهادية، وبعيدا عن الانفعالات المغرضة، متشبثين بالحقيقة لا غير، سنساهم في كشف مآلات التاريخ الذي أصبح واضحا لكل قلب سليم أو ألقى السمع وهو بصير. ولأن سؤال التاريخ، في أي أمة تعيش محنة حضارية بكل أبعادها، يحمل في طياته وعيا بالغ الأهمية، ليس في السياقات الأكاديمية فحسب ولكن في واقع الحياة، فليس هناك أي معلم لمسيرة شعب كالتاريخ، وذلك لما يتضمن من تجارب الصواب والخطأ، وما ينطوي عليه من سنن ونواميس يمكن أن تكون دليلا مناسبا للاستفادة من الخبرات الإيجابية، وتجاوز تكرار الخطأ الذي يكون في كثير من الأحيان أكبر من الجريمة، وهذا على حد قول السياسي الفرنسي “تاليران”، والتاريخ كله تاريخ معاصر على حد قول الفيلسوف الإيطالي “بنيدتو كروتشية” مشيرا إلى التأثير البالغ للتجربة الميدانية على واقع أي شعب، وإلى إمكان تجدد الوقائع بمجرد أن تتهيأ لها الشروط والملابسات التي تشكلت أول مرة. ومن هذه المنطلقات الفكرية والفلسفية نستطيع القول إنه لا نهاية للتاريخ، ولا حدود للصراع، لأن التاريخ وحدة متكاملة، مرتبط أولها بآخرها، والتاريخ أزلي أبدي في دوافعه، وفي غاياته، التي لا نهاية لها، ولا حدود، والتاريخ دائم التطور، ولا نهاية للتطور الذي هو التاريخ، ولا نهاية للتطور الذي هو مكان الصراعات المتطورة الدائمة والمغيرة للون، وليست هي إلا التاريخ. واستنادا إلى الحيثيات السابقة فقد أشار المؤرخ الفرنسي “فرناند بروديل” إلى توقف خفقان المتوسط كقلب للعالم، منذ الثلث الأول للقرن 17. فهل يمكن اعتبار حملة نابليون على مصر في آخر القرن 18 محاولة لإعادة النبض، وهل كان احتلال الجزائر، بعد فشل حملة مصر، هو تأجيج لنبضات وخفقات المتوسط أم انتقام من الماضي كله: من فشل الحروب الصليبية، وهزيمة الحملة على مصر، والهزائم الفرنسية القديمة أمام الجزائر، ثم الانتقام من احتلال العرب والمسلمين لأجزاء من فرنسا في القرون الوسطى. نحن في أمسّ الحاجة إلى نزعة التساؤل التاريخي، وتحليل أبعاده ومراميه، كما نحن في أمسّ الحاجة إلي فكر تاريخي وحضاري، يرى الأزمة في جذورها في المكون الديغولي، الذي هو بدوره يعتمد على مكون (فرناند بروديل) في القرن 17. فما أبعد المكونين زمنيا، وما أقربهم إلى تحقيق الغايات والأهداف فما أقرب (خفقان المتوسط)، بالحضارة المتوسطية التي بشر بها ساركوزي، سليل الديغولي! مفارقات تاريخية عجيبة كشفت عنها المكون الديغولي، خاصة تلك التي تتصل بالشعار الذي رفع في أول عهدة “جزائر العزة والكرامة”، وهو شعار “كسر الطابوهات” الذي نتجت عنه كل المآسي التي نتألم منها الآن، حيث دخلنا الألفية الثالثة ونحن مصابون بالكساح الحضاري، بعد أن زاغت “صحوة الأعراب”، وجاء الأغراب ليمكنوا للمكون الديغولي، مستغلين زيغ “الأعراب” وما أحدثوا في البلاد من خراب. لقد حاول أعداء الجزائر، وهم وجوه مستعارة لا تربطهم بالجزائر إلا “الإمارة”، أن يجعلوا الخراب الذي فرض على الأعراب عملية تركيع وقطع أوصال الأمة وإدخالها في غيبوبة الموت التاريخي، بعد أن اغتصبوها حضاريا، وقطعوا لسانها لكي لا تعبر عن الاغتصاب بلغة واضحة. ومن الأكيد أن هناك أجندة معدة إعداد محكما بعد تركيع الذي كان طريقه الترويع والترهيب، وارتكاب المجازر الجماعية، ستأتي الإبادة الحضارية أي طريقة التدرج في إخراج الجزائر من مجراها الحضاري وهذا ما كانت تهدف إليه الأدبيات الفرنسية، بعد قرن من الاحتلال، حيث أعلن “إيميل غوتيه” المعروف بأفكاره ونظرياته الاستعمارية المتطرفة، والأستاذ في التاريخ والجغرافيا، والمؤثر على جيله، أن افتراض استقلال الجزائر عن فرنسا لا يمكن تصوره، وقد بنى نظريته هذه على أن تاريخ الجزائر يشهد منذ ألفي سنة على تبعيتها لدولة خارجية.. ثم إن قرب الجزائر من مرسيليا دليل على هذه الرابطة القوية، ويشاطره هنا الرأي “أغسطين بيرك”، حيث لوّح سنة 1937 بغصن الزيتون الفرنسي، واعتبر أن بلاد البربر قد هاجرت طويلا في عالم الشرق، ثم رجعت إلى حضن الفرنسة وريثة الرومنة، والنغمة نفسها رددها المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون) صاحب النظريات الاستشراقية المعروفة. ففي سنة 1947 أعلن “ماسينيون” أن الحل لمشكل الجزائر هو الاندماج في ظل الإخلاص والعدالة عند التطبيق، وعندما قرأ “شروط النهضة” لمالك بن نبي، الذي طبع سنة 1948، وتوقف عند عبارة (إن مشكلة أي شعب حضارية)، قال بالحرف والعبارة: “إن هذا الكتاب خطر على الاستعمار”. ومما يسهل علينا المقارنة بين هذه الأدبيات الفرنسية والمكون الديغولي المرتكز على هذه الأدبيات، نقرأ بتمعن ما قاله ديغول لكي نتأكد أن التاريخ أزلي ولا ينتعش إلا بالصراعات: (منذ سنة 1958 لم أكن أمانع منح الاستقلال للجزائر وإنما كنت أفكر لمن أمنح هذا الاستقلال). إن الرابط بين هذه العبارة الصادرة عن الجنرال على شكل مرسوم تطبيقي وما تعيشه الجزائر منذ (العهدة الرابعة) سيرى أن هذه النتائج المأساوية كانت حتمية منطقية لمقدمة صغرى وكبرى، وهذا ما نجده في مذكرات الجنرال ديغول. وهكذا فالجنرال لا يعبث ولا يلعب ويتكلم بلسان فرنسي أنيق، وينطلق من خلفيات حضارية وتاريخية، حيث إننا نجده في مذكراته “الأمل” كالواثق من نفسه، بما قد يحقق لمستقبل فرنسا التاريخية في “جزائر العزة والكرامة” التي هي من نحته منذ 29 ماي 1960، حيث يؤكد في فقرة أخرى من المذكرات، توضيحا للمرسوم التطبيقي السابق، متحديا البيان النوفمبري- الذي اجتاحته أمواج المتوسط المتصهينة وطالته سياسة “كسر الطابوهات”– ويتحدى شهداء الملحمة الحضارية، فيقول حرفيا بكل عزة نفس، واعتمادا على مخبريه من السجون، والمستشفيات، والذين رباهم على يده، ووضعهم نصب عينه: (وستبقى الجزائر فرنسية من عدة أوجه، وستحافظ على الطابع الذي اكتسبته، مثلما احتفظت فرنسا بالطابع الروماني رغم أن شعبها كان في الأصل غاليا (goulois). وهكذا فإن تماس المكون الديغولي مع الحاضر المتفجر بالغاز الصخري، سيؤدي بنا، إن لم نفقه التعامل مع هذا المكون، إلى نتيجة كارثية مؤلمة، مفادها الدرامي: (إن الجزائر احتلت من قِبل فرنسا ك«إيالة”، وستسترجعها ك«إمارة”، وبذلك استبدلت المروحة باستغلال الغاز الصخري، الذي هو ثمن (الإمارة). إمارة الجزائر، على وزن (إمارة موناكو)”. فما أقرب الإمارتين، وما أشقى الشعب الجزائري المغلوب على أمره، وما أخزى ما تبقى من الشخصيات الوطنية الساكتة عن هذا العار المذل. وختاما، أناجي شهداء الملحمة قائلا: ماذا تنفع الكلمة في هذا الزمن الباطني، ولماذا نسأل تاريخ ملحمتكم وقد سلمه أمير الإمارة، نكاية فيكم، إلى مستشفيات فرنسا. ألف عذر يا شهداء الملحمة، لقد تركتم ابن ملجم يطعن ثورتكم كما طعن علي في صلاة الفجر. طعنة علي أنجبت دولة تناطح الامتداد الغربي المتصهين في كل الاتجاهات، وطعنة تاريخكم أنجبت شعبا مغلوبا على أمره تحيط به المؤامرات من كل ناحية، فما أسعدكم في جنة الخلد وما أشقانا في “جزائر العزة والكرامة”.