أطفأت “بن غربي فاطنة” بحلول سنة 2015 شمعتها المائة والعشرين، وبهذا تكون في صدارة المعمّرين على المستويين الوطني والعالمي، كونها تحمل الدليل بالوثائق على عمرها، رغم هذا السن ما تزال تحافظ على ذاكرة قوية ونشاط بدني يثير الإعجاب. لم نصدق حين سمعنا عن وجود معمرة تبلغ من العمر 120 عاما بمدينة الجلفة وما تزال تحافظ على نشاطها وذاكرتها، والأكثر من هذا أنها تخرج يوميا من بيتها في أطراف حي “بوتريفيس” بمدينة الجلفة وتقصد “المقبرة الخضراء” تجلس بجوارها أو عند مدخلها وتتحدث إلى الجميع بتلقائية وعفوية. حين قصدناها عند منتصف النهار وجدناها تتأهب للخروج من المقبرة إلى بيتها من أجل تناول وجبة الغداء، استقبلتنا “خالتي فاطنة”- المعروفة بهذا الاسم لدى ساكنة الولاية- بابتسامة ونظرة متفرسة وهي مصلوبة الطول دون انحناء أو تقوس في ظهرها. أهازيج الحصادين.. وكأنها البارحة رغم وجود التجاعيد الدالة على عقود زمنية طوتها من عمرها إلا أن نبرة صوتها بدت حادة مستقيمة دون تلعثم أو تردد، مع نظافة بادية في ثيابها وحتى في وجهها، ما يدل على أنها مازالت تحافظ على “بريستيج” الجمالية في الأنثى مهما تقدم بها العمر أو طالت بها السنوات. وسألتنا تقديم أنفسنا إليها، فقدمنا أنفسنا على أننا من سكان الولاية وممن سمعوا عن عمرها الطويل، وأننا جئناها من بلدية مجاورة، فلم تتأخر عن دعوتنا لتناول بعض القهوة أو طعام الغداء. وحين سألناها عمن يعدّ لنا الطعام أو القهوة أجابت بالتأكيد أنها هي من تحضّر كل شيء في بيتها؛ ساعتها اعتذرنا لها ودخلنا معها في دردشة خفيفة، فتحدثت لنا عن ماضيها البعيد حين ولدت ببادية بحاسي بحبح ونشأت على غرار أترابها في البادية من رعي الغنم واقتلاع نبات الحلفاء، وحتى المشاركة في عمليات الحصاد، وتذكر ما كان يررده الحصّادون من أذكار وأهازيج مازالت تحفظ بعضها عن ظهر قلب. الزواج كان بسيطا وغير مكلف تذكر زواجها وهي صغيرة لم تسلخ السادسة عشر من عمرها، وكيف تم عرسها حين جاءها عريسها بفستان وبعض الألبسة الخفيفة التي تعد على الأصابع، و«ربما أعطى بعض النقود لوالدي” تقول، لتضيف أن الزواج في ذلك العهد كان ميسورا ولا يكلف العروسين الكثير، وكان بسيطا حيث يتفق الرجال من الطرفين، العريس والعروسة، دون الرجوع إلى النساء أو استشارتهن، ثم يقررون اليوم الذي يكون فيه العرس، ولا وجود للتحضيرات؛ فبمجرد أن يتفق الرجال ويحدد الموعد تعطى الأوامر لأم العروس من أجل إعداد الطعام للضيوف وتزيين ابنتها في ذلك اليوم. وتذكر “خالتي فاطنة” أن الأعراس لا تكون بالضرورة يوم الخميس والغالبية تكون يوم الاثنين، حيث يأتي الضيوف فيأكلوا الكسكسي واللحم ويشربوا الشاي ويكون معهم إمام أو حافظ لجزء من القرآن يطلقون عليه اسم “الطالب” يقرأ لهم الفاتحة، ثم تؤخذ العروس على ظهر دابة إذا كانت تزف بعيدا وتذهب مشيا إذا كانت خيمة زوجها قريبة وتصحبها والدتها أو إحدى قريباتها ومعهم والدة العريس، وتترك العروس في اليوم الموالي في بيتها الجديد؛ ومن يومها الأول، تقول “خالتي فاطنة”، تدخل ميدان الأشغال في البيت الجديد لتشارك في الطهي وجميع الأشغال الأخرى. أبناء وأحفاد وأحفاد أحفاد وتذكر “خالتي فاطنة” أنها تأخرت في حملها الأول بحكم صغر سنها، ثم سرعان ما بدأت في الإنجاب لتلد أربعة ذكور وثلاث إناث، وتضيف أن الولادة في السابق كانت سهلة، فالمرأة تعمل دون كلل ولا ملل، بطحن الحبوب بطاحونة الحجر وكذا الصوف وانتزاع النباتات، فضلا عن مساعدة الرجال في تربية الماشية، وحين يأتيها المخاض تستعين بعجوز ذات خبرة ودراية بالتوليد يطلق عليها اسم “قطّاعة السرّة” نسبة إلى الحبل السرّي الذي يقطع بموس آنذاك من قِبل هذه العجوز، حيث تساعد الحامل في تنزيل المولود، وتكون قد أعدت له من قبل بعض الأعشاب وزيت الزيتون، وأهم من كل هذا قشورا يابسة من جذوع شجر العرعار يطلق عليها اسم “الدباغة” تطحن بشكل دقيق وتخلط مع زيت الزيتون، ويدهن به جلد المولود الجديد ثم يوضع في “القماطة” التي عادة ما تكون من أثواب بالية أو قديمة. ويسمى المولود على اسم المشهورين في الجاه أو العباد الصالحين أو على الوالدين أو على ضيف يكون قد صادف لحظة الميلاد سواء كان أنثى أو ذكرا. وتنقّل “خالتي فاطنة” إلى عاصمة الولاية كان مع نهاية القرن الماضي رفقة أبنائها وبناتها الذين أصبحوا اليوم كبارا في السن، بل وأجدادا ولهم أحفاد كثيرون، وحتى الأحفاد فيهم من بنى بيتا وأسس أسرة وأما عدد الأحفاد وأحفاد الأحفاد فلا تستطيع حصره بعدد، ولها ابنان من أبنائها توفيا مثلما توفي زوجها خلال تسعينيات القرن الماضي ولم تتزوج غيره. القهوة و«التشيشة” وذكريات المعاناة وتقول “خالتي فاطنة” إن القهوة كانت أعز ما نملك في تلك الحقبة ولا تقدّم إلا لضيف عزيز وكانت العقيقة تختص بالذكور دون الإناث، كما تقول بأن أكلها كان طبيعيا لا يخرج عن طحين القمح أو الشعير أو ما يعرف ب«التشيشة” التي تخزنها في أوعية جلدية مصنوعة من جلد الماعز. ولعل أهم ما تذكره هو الرحلات التي كانت تقود الأسرة من مكان إلى آخر بحثا عن العشب، وكانت معاناتهم شديدة في فترة الاستعمار حين تضيق عليهم الأرض، وفي كثير من الأحيان يقوم الجيش الفرنسي بعمليات تمشيط بحثا عن الثوار وحينها تكون المعاناة شديدة من خلال الممارسات القاسية في مساءلة الرجال أو ضربهم أو اقتحام الخيم على النساء. وتذكر “خالتي فاطنة” السنوات التي مرّت عجافا عليهم، حيث عانوا من الجوع والأوبئة والأمراض، وأما اليوم، فتقول، إن الحياة أصبحت سهلة بسيطة للغاية، لكن طعم القديم حلو رغم صعوبته. “المقبرة الخضراء”.. يوميات “خالتي فاطنة” وأما ملازمتها للمقبرة “الخضراء” بالجلفة فهي من أجل جمع بعض الصدقات لتساعدها على أعباء الحياة، ولا تطلب أو تمد يدها، إنما من أعطاها الصدقة فهي ما تريد ومن لم يعطها لا تسأله أو تلحّ عليه، وتأتي صباحا لتعود عند منتصف النهار ثم تعود مساء إلى المقبرة. ولا تعبأ “خالتي فاطنة” بالرياح أو البرد أو الحر، فهي، كما تقول، تعودت على مختلف الأجواء ولها مناعة عالية. بالإضافة إلى أنها تتميز بنشاط يظهر عليها في مشيتها وحركاتها وفي سرعة كلامها، وهي من أنصار النوم الباكر والاستيقاظ مع الأسحار، لأنها تعودت على ذلك منذ صغرها. أمنية الخالة.. حجة أو عمرة ونحن نهمّ بتوديعها أعادت “خالتي فاطنة” دعوتنا على القهوة أو الشاي في بيتها، وأكدت لنا بأنها ما تزال قادرة على طهي طعامها وغسل ثيابها، وأن كل ما تأمله وتتمناه هو الحج أو العمرة. وما تزال خالتي فاطنة تأمل في طول العمر بعد كل هذا، بل إنها تتنقل بين بناتها وأبنائها تزورهم وتطمئن عليهم، وتحرص على أن لا تطول بها الإقامة عند أحدهم، ما يدل على عزة في نفسها، وتأبى أن تكون مخدومة، حيث آثرت أن تكون خادمة للجميع، وهي نشيطة في مشيتها وحركاتها لا تشكو آلاما ولا مللا من الحياة، متفائلة مبتسمة، تعجبها سهولة العيش في وقتنا، لكنها قالت بأن حلاوة وطعم القديم يبقى متميزا، لأن كل شيء فيه كان طبيعيا.