بملامح توحي بتعب شديد، ظهر عبد المومن خليفة لأول مرة في الجزائر، بعد 12 سنة من الغياب، خلال انطلاق محاكمة قضية خليفة، أمس، بمجلس قضاء البليدة، بعد أن رفض القاضي طلب الدفاع بتأجيل المحاكمة، وأصر على استمرارها وسط غياب ملحوظ للشهود من الوزراء والمسؤولين السامين، باستثناء وزير المالية جلاب. في يوم مشهود من أيام مدينة البليدة، انطلقت محاكمة قضية خليفة من جديد، بمجلس قضاء الولاية، بعد سنتين من قبول المحكمة العليا الطعن المقدم في الأحكام الصادرة سنة 2007، في أجواء مشدودة عن آخرها، بسبب الإجراءات الأمنية المشددة التي حفت كافة جوانب المجلس في الخارج، ولم تسمح إلا للصحفيين والمحامين وبعض الحضور القلائل بالدخول إلى قاعة المحاكمة. ترأس محكمة جنايات البليدة القاضي عنتر منور الذي أدار الجلسة بهدوء وامتياز، إذ تسلسل في الإجراءات الشكلية المطلوبة دون أن يعترضه أحد من محامي الدفاع. بدأ بمناداة المتهمين وعددهم 75، منهم 24 موقوفا داخل القفص، أبرزهم عبد المومن خليفة، ومزيان إيغيل المدرب الوطني السابق الذي أصبح متهما بعد إطلاق سراحه ببدء المحاكمة من جديد. نادى بعد ذلك القاضي على الشهود وعددهم 300 ثم الأطراف المدنية الخمسين. مومن خليفة أصبح شيخا في مرحلة الشباب! ظهر عبد المومن خليفة عندما نادى عليه القاضي بالاسم كمتهم وأي ظهور. لقد كان شاحبا ذابل العينين، تبدو على وجهه علامات الاكتئاب الطويل. لم يكن الرجل الذي حفظ الجزائريون صورته ذات سنين “عز” هو نفسه الموجود في قفص الاتهام. وكأن الزمن عبث بملامحه، فأضاف لعمره سنوات أخرى جعلته يقفز إلى مرحلة الشيخوخة وهو لا يزال كهلا شابا. كان عبد المومن يتوسط الصف الأول من المتهمين الموقوفين، شاردا بنظراته بعيدا غير مبال بتلك الإجراءات الطويلة والشكلية والمملة التي كان غارقا فيها القاضي. عند التدقيق في وجهه والاقتراب منه أكثر، يظهر بوجه أصفر مائل إلى السواد. يرتدي بذلة متواضعة زرقاء قاتمة وقميصا أبيض، وقد نزع عنه ربطة العنق الحريرية التي كان ينتقيها بعناية أيام زمان مع مستشاري هندامه اللبنانيين. “كل شيء تغير فيه”.. تصيح محامية بدت غير مصدقة لحاله.. “هل هو نفسه عبد المومن ؟”، “أهذا هو الفتى الذهبي الذي كان يتهافت كبار المسؤولين طلبا للظفر بموعد معه؟”.. يتساءل الحاضرون في حيرة. فقد ظهر عبد المومن على من استوعبتهم قاعة محكمة الجنايات بوجه آخر لا يكاد الناظر إليه يتبين منه، لولا بقية ملامح لم تمحها سنوات السجن، ولا تزال تشهد بأن الجالس على كرسي الاتهام هو نفسه الفتى الذهبي. لم يتكلم الفتى الذهبي ولكن وجهه كان ينطق بالكثير.. كان يقول عبد المومن عبر لغة جسده إنه تعبان ومرهق وقلق.. قلق من مصير ومآل ينتظره؟ أم قلق من وخز الضمير لعشرات المتضررين الذين غصت بهم المحكمة ولم يستعيدوا حقهم رغم كل هذه السنين التي مرت؟ كل ذلك وارد، لكن لا أحد يستطيع الإجابة عما كان يدور في خلده بالضبط.. حتى حيوانات بن عكنون وتيليطون باب الوادي يا خليفة! كان القاضي ينادي على الأطراف المدنية، وهم، بغير اللغة القانونية، المتضررون من فضيحة الخليفة. بسردهم واحدا واحدا تتضح حجم الكارثة التي وقعت فيها المؤسسات العمومية والنقابات والتعاضيات. جل وكالات الترقية والتسيير العقاري بولايات الوطن جاءت على لسان القاضي. كلهم أودعوا أموالهم في فترة الوزير عبد المجيد تبون في بنك الخليفة طمعا في نسب الفائدة الكبيرة التي يمنحها، لكن أرصدتهم صارت أصفارا بين عشية وضحاها. أما الضحية الأخرى لإفلاس بنك الخليفة، فكانت النقابات والتعاضيات في كل القطاعات. التعليم، السياحة، النقل البحري، البريد والمواصلات.. وهي كلها أموال عمومية تبخرت من أرصدة الخدمات الاجتماعية للعمال. ولم يسلم من المتضررين حتى حديقة الحيوانات ببن عكنون وأموال تيليطون باب الوادي سنة 2003. واللافت أن الشركة الأمريكية البترولية هاليبرتون كانت من بين الأطراف المدنية. ونودي أيضا على بادسي منصف، مصفي بنك الخليفة. بلومي، روراوة والوزراء يغيبون إلا جلاب ساعة كاملة استغرقتها المناداة على الشهود. من حين لآخر كانت تلتقط الآذان أسماء معروفة من مسؤولين أو مشاهير الجزائر، لكن أغلب هؤلاء لم يحضروا، والقاضي استبق ذلك بالتماس العذر لهم: “بعض المسؤولين السامين لما يصل موعد شهادتهم سنقوم باستدعائهم”. من هؤلاء ذكر القاضي كريم جودي وزير المالية السابق، أبو جرة سلطاني، عيد المجيد تبون، مراد مدلسي، عبد المجيد سيدي السعيد، لكصاسي محمد، لكحل عياط عبد الغني.. وكل هؤلاء كانوا من الغائبين. بينما كسر وزير المالية محمد جلاب قاعدة غياب المسؤولين، فقد ظهر في بهو المجلس قبل انطلاق المحاكمة، لكنه لم يظهر عند مناداته كشاهد. وظهر من بين الشهود الغائبين أيضا رجل الأعمال المعروف طحكوت محيي الدين وحمياني وهيبة، بينما كان الشهود من مشاهير الكرة كثر. لخضر بلومي غاب ومحمد روراوة رئيس الفاف غاب أيضا بسبب ارتباطاته خارج الوطن مثلما برر ذلك في رسالة للقاضي، وسعيد عليق رئيس اتحاد العاصمة سابقا. وحضر محند شريف حناشي، رئيس شبيبة القبائل، ومناد مصطفى شقيق اللاعب مناد الذي تحول من متهم إلى شاهد بعد الحكم الصادر في سنة 2007. ونودي على بنويس محمد الطيب مدير “إير ألجيري” السابق، لكن أحد أقاربه سلم لهم شهادة وفاته. القاضي يقرر مواصلة المحاكمة استؤنفت الجلسة على الثانية والنصف زوالا. يعترض المحامي لزعر نصر الدين على كون عبد المومن خليفة لم يعرض على قاضي التحقيق عند تسليمه للجزائر في 24 ديسمبر 2013. عاب عليه أيضا استعمال مصطلح المتهم الرئيسي، فعبد المومن في نظر محاميه ليس سوى متهم من بين 75 متهما. ثم طلب تأجيل القضية. ترفع الجلسة للنظر ويعود القاضي مصدرا حكمه برفض الطلب، ما يعني استمرار المحاكمة، ليفسح المجال أمام تلاوة قرار الإحالة المتضمن وقائع الاتهام وتفاصيلها في 256 صفحة، وهي كلها تدور حول الثغرة المالية التي اكتشفت سنة 2003 بقيمة 3,2 مليار دينار.