كانت علاقتي مع المرحوم الطاهر وطار على أحسن ما يرام عكس ما يظن البعض. فالرجل كان يحترم الكتّاب ويقدرهم. فبادلته الاحترام والتقدير. ولست جاحدا لكي أنسى جميله وفضله عليّ، فكم من مرة منح لي منبر الجاحظية لإلقاء محاضرة حول القضايا التي كانت تشغل الحياة الثقافية في مطلع التسعينيات، وأنا في عز الشباب. وبعد المحاضرة كان يمدني، وهو يبتسم، بمبلغ ثلاثة آلاف دينار، مقابل إلقاء المحاضرة. وكان مبلغا كبيرا آنذاك يكاد يساوي راتبا شهريا. وأعترف أنه أول مثقف جزائري فكر في دفع مقابل مادي للمحاضرين، بعد الانتهاء من إلقاء محاضرتهم، اعترافا منه بجهدهم وتقديرا لهم. بعد أن نشرت روايتي الأولى ”الانزلاق”، صرح وطار بأنها ”أدب استعجالي”. تقبلت الأمر، ولم أغضب. ورفضت تجاوز حدودي. فهمت الموقف في حدوده الطبيعية، إدراكا مني أنه رأي جاء من روائي كبير، كنت أعتبره أستاذي في فن الرواية. أدركت حينها أنه من حق وطار أن يدلي برأيه في عمل روائي لم يعجبه. ومن جهتي اكتفيت بالدفاع عن روايتي. قلت إن ”الأدب الاستعجالي” نوع أدبي معترف به، وبرز في فرنسا عقب الحرب العالمية الثانية، وأوجده روائي يدعى ”فيركور” صاحب رواية ”صمت البحر” التي تعد رواية استعجالية حققت أهدافا آنية، تمثلت في مقاومة الهتلرية خلال غزو النازية لباريس واحتلالها. كذلك كنت أعتبر ”الانزلاق” محاولة لمقاومة التطرف. وتوقف الأمر عند هذا الحد. لم يفسد الود بيني وبين وطار بسبب حكمه القاسي على روايتي، لأن الرجل صاحب ميزة خاصة، وله قدرة فائقة على نسيان الخلافات وتجاوزها بسرعة. كان كاتبا إنسانيا. ومن عرفه جيدا، يدرك أنه ليس صاحب ضغينة أبدا، فلم يغلق أبواب الجاحظية عليّ يوما، وبقي يرحب بي هناك، وكنت أشعر وألمس أن ترحيبه بي كان كبيرا، حيث كان يدخلني إلى مكتبه، ويحرص على أن يجلسني أمامه، وكان ذلك من كرمه وطيبته. وما كان يعجبني في وطار هو صراحته. مرة قلت، في الجاحظية، أثناء استضافة الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم، إنني سعيد لأني أجلس بين روائيين يساريين كبيرين، فغضب عليّ، كما يغضب الأب على ابنه، لكن غضبه لم يدم سوى بضع دقائق، بدليل أنه عزمني في تلك الليلة لتناول العشاء في بيته بحضور صنع الله إبراهيم، والأستاذ محمد سعيدي، وشخصين آخرين. لما غاب عنا وطار، كتبت أن الساحة الثقافية فقدت مثقفا كبيرا قادرا على تحريك الفعل الثقافي. ومن هنا كان وطار يجد في الخلافات بذرة من بذور الحراك الثقافي، فلم يفكر يوما في مقاضاة خصومه الأدبيين، لأنه يعتقد مثل طه حسين أن الخصومة ضرورية بين المثقفين. كان الطاهر وطار يثق في كثيرا، فكم من ملف فتحت معه عبر الحوار قضايا حساسة، ما أدى إلى تغير مواقف أطراف عديدة، منها على سبيل المثال الحوار الذي أجريته معه بخصوص تهميش المثقف المعرب من فعاليات تظاهرة ”سنة الجزائربفرنسا”، فكان له صدى وتأثير كبيران، وساهم في تغيير برنامج التظاهرة رأسا على عقب، فوجد المثقف المعرب فيها ضالته، فكان ذلك بفضل وطار. أذكر أن وطار كان يتصل بي في كل مرة يحس بالحاجة إلى الدفاع عن قضية معينة، وإبداء موقف بعينه. كان يفعل ذلك إيمانا منه بأن الفعل الثقافي إن كان خاليا من النقاش والجدل يكون مصيره الركود. هذا ما كان يعجبني فيه، كان يذكرني بالمثقف الأثيني الذي يرفض منطق السفسطائيين الذين كانوا يرغبون في تنويم أهل أثينا. لكل هذا أحتفظ بذكريات جميلة مع عمي الطاهر. وسيبقى روائيا كبيرا بالنسبة إليّ.