ميراث الحكم الفردي إن ميراث الحكم الفردي ميراث ثقيل: حياة سياسية نُزع منها نسيجها الحي ووساطات سياسية واقتصادية واجتماعية طُفِّلَتْ واقتصاد وطني دون توجه ولا بوصلة ومجتمع فقد معالمه الأخلاقية وقيمه المرجعية. هل هذا هو ما نريد تأصيله والإبقاء عليه من خلال التحويل الإرثي للسلطة؟ بالتأكيد لا، وبالتالي فإن وضعا كهذا يملي علينا انتهاج مسلك آخر مجبرين لا مخيرين. ما هو هذا المسلك المنجي من المجهول؟ هو ذلك الطريق الذي نحن مدعوون لاتباعه بفطنة وثبات في أقرب الآجال قصد الخروج من أزمة النظام السياسي القائم وبعث مسار التحول الديمقراطي وتنظيم الانتقال من سلطة فردية إلى سلطة شرعية غير مطعونة التمثيل. في أعلى دوائر الحكم السياسي في بلادنا يدّعي البعض وهو مخطئ في مصادر استلهامه الباطل وفي مفارقة كبرى مع الحقيقة التاريخية، أن الجزائر قد قامت بالانتقال الديمقراطي وأنها وصلت به إلى بر الأمان. والبعض الآخر يدعونا مزايدا ومغاليا إلى الكف كلية عن طلب مرحلة انتقالية دون تنويرنا بشأن كيفية تجنبها من طرف نظام بالٍ ولا ديمقراطي، ومناهض للحريات والحقوق وذي حكامة أضحت منبوذة ومرفوضة. فلنعاود معهم زيارة التاريخ السياسي الحديث لبلادنا. لا يمكن للتحول الديمقراطي أن يقوم إلا في ثلاثة أشكال: شكل انتقال ممنوح أو انتقال بالتراضي أو انتقال توافقي يستمد شرعيته من تفويض شعبي سيد. ينظم الانتقال الممنوح عادة بمبادرة من الحكم القائم بمفرده. وكثيرا ما يلجأ إليها بغية تلميع صورته أو محو خاصياته الأكثر نبذا أو رفضا أو التخلص من تجاوزات أو تعسفات أضحت لا تطاق. ويجب على الحقيقة أن تقال بهذا الشأن وهي أن بفعله هذا لا يرمي الحكم القائم إلى تغيير كيانه وإنما يكتفي بترميمه وترقيعه. إن انتقالا من هذا الصنف لا يعمر. لقد عرف بلدنا نمطا من أنماطه وما التعديل الدستوري الذي يُحضر له في هذه الآونة سوى أسلوب من أساليبه. إن منطلق تصرف سياسي كهذا هو قناعة النظام القائم أنه يعرف مصلحتنا أحسن منا، ونزولا عند رغبتنا يقبل التكفل بها متفانيا ومضحيا. وما رفض المعارضة الوطنية الانسياق في مسعى من هذا النوع وحملها على أن تكون شاهد زور فيه، سوى وقفة تصدٍ وممانعة في وجه الانتقال الممنوح. لا انتقال خارج الإرادة الشعبية وبالفعل، لا يمكن للمعارضة الوطنية أن تقبل بأن تكون طرفا متساهلا أو مغفلا في عملية يريد النظام السياسي القائم قيادتها وإدارتها حسب مصالحه ورغباته وحساباته الحصرية ويهدف إلى إنهائها سوى بما يتماشى وغاياته وأهدافه الخاصة. وبالتالي، فإن التعديل الدستوري المرتقب كجزء من تحول ممنوح يهدف إلى بعث أنفاس جديدة في النظام السياسي القائم، ما كان ليكتب له الصمود في وجه معارضة وطنية لا ترضى ولا ترتاح سوى لإعادة تأسيس حقيقية لمنظومتنا السياسية. خلاصة الحديث الموجزة في هذا الموضوع، أن التحول الممنوح لا يبحث عن شركاء سياسيين ويقبل بهم وإنما يعمل فقط على كسب المادحين له في كنف الولاء والخنوع. أما التحول بالتراضي، فهو في أغلب الأحيان نتاج تفاهم بين القوى السياسية - سلطة ومعارضة يرمي إلى تطوير النظام القائم. يتم التفاوض والاتفاق على هذا الصنف من الانتقالات السياسية بين هذه القوى خارج إرادة شعبية تكون بمثابة المؤطر والمرجع بالنسبة له، وفي هذا يكمن موطن ضعفه الرئيسي. فلا يمكن لانتقال بالتراضي متشبع بغاية ديمقراطية أن يستهل مشواره بالاستغناء عن الإرادة الشعبية دون أن يُطعن في سلامته ومصداقيته. وبالفعل، لا يمكن ضرب موعد مع الديمقراطية بوسائل لا ديمقراطية أي بتغييب الإرادة الشعبية أو القفز عليها. على عكس الانتقال الممنوح أو الانتقال بالتراضي، فإن الانتقال التوافقي الذي تصنعه قوى سياسية ممثلة تستمد شرعيتها من خيار شعبي ونزيه هو الانتقال الأصيل الذي يتطلع إليه بلدنا ويصبو إليه شعبنا. إن عودة سريعة إلى الوراء، تمكننا من التأكد بأن الجزائر لم تعرف سوى محاولتين لتنظيم انتقال سياسي: الأولى أجهضت والثانية لم تكتمل. وأسوأ من هذا، فإن المكتسبات الديمقراطية الفطرية التي حققت في سياق هذين الانتقاليين تم التراجع عنها وألغيت برمتها خلال العشرية الأخيرة. فلقد جاءت في هذه الفترة مراجعة دستورية شاملة وعميقة لتوقف حياة ديمقراطية ناشئة ولتعصف بكل مقوماتها، بغية فرض وتكريس حكم وسلطة الرجل الواحد. لقد كتبت في مقدمة هذا الاجتهاد أن الجزائر تواجه اليوم ثلاثة تحديات مصيرية يستوجب عليها رفعها: حل أزمة النظام وتنظيم التحول الديمقراطي والقيام بالانتقال من الحكم الفردي إلى الحكم الديمقراطي. إنني أتصور هذه التحديات الثلاثة في صورة ثلاث محطات يجب تنظيمها ووضع روابط التواصل بينها في إطار مسار سياسي شامل. إن تنظيم هذه المحطات وإخضاعها لترتيب تسلسلي لا يستجيبان سوى لانشغال واحد، ألا وهو معالجة المشاكل حسب درجة استعجالها ومدى حجم مخاطرها الحقيقية على حرمة الدولة الوطنية. الخلاص في العودة السريعة إلى صناديق الاقتراع وبالنظر إلى هذين المعيارين الموضوعيين، يبدو من الواضح والبديهي أن تخصص المحطة الأولى لمعالجة أزمة النظام الخانقة التي تتخبط فيها الدولة الجزائرية اليوم، أزمة ثقلى بتهديدات قد يصعب التنبؤ بها ويستعصي التحكم فيها. إن قناعتي العميقة هي أن لا حل قابل للتطبيق ولا حل دائم لأزمة النظام هذه خارج العودة إلى حكم الشعب السيد، حكم يصدر عنه بصراحة ونزاهة ودون تلاعب به. هذه هي الطريقة المثلى التي تتبناها وتحتكم إليها كل دول العالم التي تثمّن المواطنة وتؤمن إيمانا كاملا بحق الشعب السيد في إصدار أحكامه غير القابلة للتصرف. لا يمكن لبلدنا أن يرتاح لكونه استثناء لهذه القاعدة، دون تعريض نفسه لإخفاقات أخرى تضاف للإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المسجلة اليوم. إن الديمقراطية توفر للأمم الناشئة قاطبة سبل الحيوية والإبداع والرقي. أمنيتي الوحيدة هي أن أرى بلدنا يرقى إلى مصف هذه الدول، حيث تحترم الحريات والحقوق ويتم الاضطلاع بكل الواجبات المدنية دون تردد ويضمن تكافؤ الفرص لصالح الجميع، ويفرض الإدماج والجمع وحرية المبادرة تواجدهم كركائز صلبة للتطور والرقي. إن أزمة النظام التي ابتلي بها بلدنا تكلفه، اليوم، ركودا لا يطاق في عالم يتقدم بوتيرة يستحيل علينا - وحالنا هذا- أن نواكبها. وبالتالي، فإن معالجتها جديرة بأن تعطى لها الأولوية المطلقة. في هذا السياق، فإن الأزمة الدستورية التي تولدت عن شغور السلطة والأزمة المؤسساتية التي تسبب فيها ذات الشغور وأزمة الشرعية التي أنتجها تزوير اكتسب شكلا منظوماتيا، تلتقي مجتمعة في فرض العودة السريعة إلى صناديق الاقتراع. يجب أن تتم حتميا هذه العودة إلى صناديق الاقتراع تحت الرقابة اليقظة والصارمة لهيئة مستقلة وسيدة، يوكل لها السهر على شفافية ونزاهة وصدق كل المسارات الانتخابية المعنية. فلا يمكن لصندوق الاقتراع أن يفصل في أزمة النظام دون تلبية هذا الشرط الذي يتوقف عليه نجاح أو فشل الخروج من الأزمة السياسية الراهنة. لقد أكد الكتاب الأبيض حول التزوير الذي عرض على الشعب الجزائري مؤخرا، بمبادرة مني، مدى خطورة هذه الآفة على حياتنا السياسية. فاقتلاع جذورها من مجتمعنا يمر قطعا بإحداث مثل هذه الهيئة قصد وضعه في مأمن من عدواها الفتاكة وتحصينه ضد كل آثارها الهدامة. بإمكان انتخابات محضرة ومنظمة ومؤطرة بشكل مستقل عن الجهاز السياسي الإداري، أن تضع نقطة النهاية في عمر أزمة النظام السياسي القائم. فانتخابات كهذه من شأنها أن تعجل بحلول لإشكالية شغور السلطة وتعطل المؤسسات وإعادة الشرعية إلى كل المستويات السياسية التي جردت منها. تحوّل يجمع ولا يقسم إن المقاربة التي أقترحها لا تجعل من نهاية أزمة النظام السياسي غاية في حد ذاتها. من الواضح أنها تهدف في أول المطاف إلى حل مشاكل مستعجلة وحساسة، لكنها وفي الوقت ذاته تحضر وتعبّد الطريق للمحطة الثانية من المسار المقترح المتعلقة بتنظيم التحول الديمقراطي. قناعاتي بخصوص هذا الموضوع جد راسخة. فمن البديهي، بالنسبة لي، أن بلدنا لم يعرف في تاريخه السياسي الحديث سوى انتقال أجهض أو انتقال بقي غير مكتمل. وبالتالي، فإن الانتقال الديمقراطي الحقيقي والشامل والكامل هو بمثابة ورشة تنتظر فتحها. كما لا يساورني أدنى شك أن كل العراقيل التي يضعها النظام السياسي القائم بغية سد آفاق التحول الديمقراطي، لا يمكنها أن تصمد في وجه تحول أضحى في صميم الطلبات والتطلعات الوطنية. أضيف إلى هذا أنني متمسك تمسكا شديدا بتحول منظم وتدريجي وهادئ. يجب علينا أن نتفادى التسرع ونفاد الصبر. كما يجب علينا أن لا نقع بين كفي كماشة لا نقبل فيها إلا “بالكل فورا” أو “بالكل أو لا شيء”. وأخيرا أعتقد جازما ومخلصا أن تحولا ديمقراطيا ناجحًا في بلادنا هو ذلك التحول الذي يعرف كيف يجمع ولا يقسم. يدمج ولا يقصي ولا يخلف منتصرا ومهزوما. لكل هذه الأسباب، ارتأيت دائما أن أضع نفسي بعيدا كل البعد عن التحول الممنوح أو التحول بالتراضي. وبالفعل، إنني لا أومن سوى بالتحول التوافقي المبني على أساس الشرعية والتمثيل الأصيل. فالتحول التوافقي الذي أتمناه لبلادنا بكل قواي، هو تحول تضطلع به كل القوى السياسية التي تتوفر فيها هذه الشرعية وهذا الطابع التمثيلي أي أنها تستمد مهامها من تفويض شعبي صريح ونزيه. وهدفها هو أن تصل إلى إجماع وإن تعذر ذلك إلى أوسع تواف وطني ممكن حول أهداف ومضمون وأدوات التحول. وسيكون أيضا من بين واجباتها أن تجمع حولها كل القوى الوطنية والمؤمنة بالتغيير، بعيدا عن الصراعات الهامشية وعن الحسابات الضيقة وعن المزايدات العقيمة. وأعني بكل هذا خطوات عملية وبراغماتية يمكن أن تتمثل فيما يلي: إن قيادة التحول الديمقراطي ستوكل إلى القوى السياسية التي حصلت في المحطة الأولى على تفويض شعبي عبر الانتخابات المنظمة من أجل الخروج من أزمة النظام. ومن بين مهام هذه القوى تشكيل حكومة وحدة وطنية تدوم دوام عهدة رئاسية كاملة، قصد المساهمة في إنجاز التحول الديمقراطي وفتح ورشات الإصلاح السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتطلب الوفاق الوطني الأوسع وكذا تسيير الشؤون العادية للأمة. تجتمع هذه القوى السياسية إلى جانب القوى الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، في إطار مؤتمر وطني حول التحول الديمقراطي، بهدف التوصل إلى ميثاق التحول الديمقراطي. إن هذا الميثاق بالغ الأهمية إذ أنه ينظم التحول على أساس التزامات وتعهدات واضحة ومقيدة بالنسبة للجميع، قصد وضع مسار التحول الديمقراطي في مأمن من الانحرافات أو الانزلاقات التي كثيرا ما تهدد مسارات من هذا النوع. توكل صياغة الدستور الجديد للجمهورية إلى لجنة منبثقة عن البرلمان الشرعي، تساعدها خبرة وطنية في أداء مهمتها. يتم عرض الميثاق وكذا مشروع الدستور على البرلمان الشرعي، قبل اتخاذ القرار النهائي بشأنهما عن طريق استفتاء شعبي. نظرا للحساسية القصوى للانتقال، ينبغي الوصول إلى تحديد واضح للآليات الضامنة الضرورية له. من هذا المنظور، لقد سبق لي أن أعلنت عن أن الجيش الوطني الشعبي سيكون له دور سامٍ وبارز في ضمان السير الحسن للتحول الديمقراطي عبر مرافقة وضمان وحماية مجراه. ولكل مفهوم من هذه المفاهيم مضمون سياسي وقانوني محدد، سيتم توضيحه في إطار الميثاق والدستور. قوات مسلحة بعيدة عن المنافسة الحزبية في هذا السياق، يجب علينا السهر على إبقاء قواتنا المسلحة خارج المنافسة الحزبية وعلى عدم إقحامها في المنافسة السياسية وعلى أن لا نجعلها طرفا في خيارات أو قرارات سياسة ليست من واجباتها الجمهورية. من واجبنا الملح أن نتعظ بدروس التجارب الانتقالية في العالم - الناجحة منها والخائبة - ومن مسؤوليتنا أيضا أن نقتاد بعبر تحولاتنا المجهضة أو غير المكتملة. ومن هذه الزاوية، تظهر ضرورة الضمانات الأكثر دقة وصرامة وكذا الحاجة إلى آليات فعالة تراقب احترام الالتزامات وتوفر للانتقال شروط الاستقرار والهدوء والطمأنينة. يتسم التحول الديمقراطي في تصوري بصفة الإطار المحضر والمنظم للمحطة الثالثة، ألا وهي محطة إعادة تأسيس منظومتنا السياسية عن طريق الانتقال من حكم فردي تسلطي إلى حكم ديمقراطي يشرف على الشؤون المستقيلة للأمة. يجب علينا أن لا نوهم أنفسنا، فمشروع إعادة تأسيس منظومة سياسية بأكملها هو مشروع طويل الأمد، يتطلب طول النفس ومخزونا من التأني والصبر. وبالفعل، لا يمكن وضع مشروع كهذا في حدود مؤسسات تستوجب إعادة النظر في سيرها أو سلطات تتطلب إدخال توازنات جديدة بينها أو حكامة تدعو إلى ملاءمتها مع المعايير الدولية المعمول بها. إن مشروع تغيير النظام السياسي يقتضي أكثر من هذا بكثير. إن الثقافة السياسية والممارسة السياسية وحتى تصور وفلسفة الحكم تثير كلها إشكالات حاسمة لها وزنها على مجرى إعادة تأسيس نظامنا السياسي. يواجه بلدنا بلا جدل مرحلة سياسية من أصعب المراحل المسجلة في تاريخه المعاصر. لكن شعبنا وإلى جانبه نُخَبُهُ يمتلكون كل وسائل تجاوزها ورهانهم في هذا الحفاظ على الدولة الوطنية قوية ومحترمة. إن تاريخ الأمم يكتب ويصنع من إخفاقات ظرفية واستفاقات أكثر دواما. فالإخفاقات لا تدوم والاستفاقات لا تتأخر إلا في حال نفاد صبرنا أو رضوخنا للقنوط أو استسلامنا أمام ضخامة المشروع. فلا الاستسلام ولا القنوط من شيم وخصال شعبنا، فهما غريبان عنه، إذ أنه لقن دروسا في هبة الذات والثبات والتضحية كلما أمرت الأمة بذالك. لنا في تاريخنا الثري مراجعنا التي تحثنا على الاتحاد والتضامن وجمع القوى، كي نجعل من الامتحان الراهن الذي أنهك قدراتنا نقطة انطلاق واعدة. وإذا كان هدف المرحلة المرة التي نعيشها هو اختبار عزيمتنا، فإنني أدرك إدراكا كاملا أننا سنعرف كيف نتفق وكيف نجمع كلمتنا وكيف نرص صفوفنا من أجل تفعيل الاستفاقة الوطنية الكبرى. الجزء الثاني والأخير