إلى زمن قريب جدا، كانت أضواء مداخيل البلاد خضراء.ومع الوفرة المالية التي لم تشهدها من قبل، اشتعل أكثر من ضوء أحمر، ليحذر من تزايد مظاهر التبذير والفساد. لم يعد خافيا كيف تم مزج العمل السياسي مع المال.والوضعية التي تعيشها الجزائر منذ ارتفاع مداخيلها زادت في تعقيد العلاقة بين حكم يفتقد إلى رشادة في التسيير، ومحكومين توزعوا بين مغامر للاستفادة من الريع، ومستنكر متأسف على ضياع فرصة جديدة تمكن الجزائر من أن تتحول إلى بلد يشق طريقه نحو انتزاع استقلاله الغذائي، ومتحكم في خياراته الاقتصادية الكبرى. وأنا صغير، كثيرا ما سمعت مختلا يردد صباحا مساء “الرودة تدور، والزهر يدور”.كنت أقول إنه مجنون، لكن مع الوقت أدركت كم كانت حكمته عظيمة، لأن الرشادة في التسيير لها رجالها، فكم من محظوظ وجد نفسه في مكان لم يكن يحلم به. في زمن الصراعات السياسية التي ترفض التداول السلمي على الحكم، ننظر إلى السياسة وكأنها مقبرة للصفاء والوفاء والكرامة. من يريد أن يصبح غنيا “يشتغل” في السياسة. فالسياسة باب من الأبواب الأكثر ضمانة للربح ومن دون الخوف من رقيب. فالرقيب بين أيدي السياسة، والقانون هو فوق الجميع، يوفر الظل ويقي أهله ما داموا على دين الولاء لحاكم ولحكم. أغلب الظن، سنكون شهودا خلال الشهور القادمة على تزايد مظاهر التطرف في مواقف رجال السلطة. ستكون حجتهم التعديل الدستوري والتهديدات الأمنية الخارجية والداخلية. وبالفعل، من الطريف أن تصمم السلطة على تعديل لا يلقى وفاقا ولا اهتماما، اللهم إلا إذا كان مسعاها هو تأمين طريق انتقال الحكم بشكل يغلق أي منفذ لاحتمالات التداول الديمقراطي. إن التجارب السابقة تبرز كيف كانت عقيدة السلطة مركزة حول مبدأ رفض التداول مع الآخرين، فالتداول يكون داخل السلطة وبين أجنحتها. إن قراءة ما يمكن اعتباره عملا سياسيا، يفضي إلى حقائق تعد من الثوابت. فأحزاب الحكم بضعفها وانقساماتها، وبتزايد صراعاتها على التركة تنفذ ورقة طريق لا تؤدي إلى الاستقرار. إن حال أحزاب الحكم وجزء من المعارضة، لم يكن يوما يتمتع بظروف مواتية تؤهله للقيادة والريادة، فهذا النوع من الأحزاب والمنظمات يظل في خدمة المتحكمين بالقرار السياسي، من مدنيين وغير مدنيين. عرفت الجزائر أكثر من تعديل دستوري. وكما فشلت أو رهبت من تنظيم انتخابات نزيهة، لم تشفع لها التعديلات من الاستفادة من نعيم الوفاق والهدوء. هي دوما مستهدفة ودائما في خطر بسبب ما توفره داخليا من شروط وظروف لا تساهم في بناء الاتفاق، بقدر ما تزيد في تعميق الشرخ والشك. كانت ومازالت الأزمة تدور حول الحكم: من يحكم وكيف يحكم وبماذا يحكم؟ ليس المقصود شخصا بعينه، بل دور المؤسسات في صنع القرار واتخاذه. فهناك طريقة في تسيير البلد تشل الصلاحيات وتلغي التراتبية المنصوص عليها دستوريا. هو زمن الترقية الاجتماعية، وصعود سلالم الحكم على حساب استمرار تراجع دور المؤسسات. ماذا ننتظر من الدستور؟ حماية من التسلط، ووقاية من الفساد، أم أسبقية القانون على الوظيفة والمركز؟ ماذا ننتظر من الدستور الذي تصنعه أقدار لها اهتمامات وطموحات لا تلتقي بالضرورة مع طموحات بلد؟ بشكل ما، لا تبالي السلطة بحقائق الشارع. تدعي الخدمة، وبالها بعيد. تعد تحت الضغط وتستجيب تحت الطوارئ. في تڤرت وورڤلة، لم تكلف نفسها عناء الاهتمام بالشكاوى والمظالم. أهملت واجباتها، لتتحرك بالطوارئ بعد استخدام الرصاص وسقوط الضحايا. هي تعد بما تعده ممكنا اليوم، وكان مهملا بالأمس فقط. [email protected]