1 - على ماذا اعتمد من قاد هذه الحملة ضدّ الباحثة ليصدر مثل هذا الحكم في حقّها؟ يبدو أن هناك عبارات في الصفحتين 67 و137 تمّ تأويلها على أنها تسيء لأصول جماعة سكان جانيت، تم عزلها عن سياقها وقُدِّمَتْ للسكان الذين لا يمكنهم أن يقرأوا الكتاب كله، من 270 صفحة بالبنط الدقيق، خاصة أن الرسالة وكذلك العريضة موقّعة من قِبل عدد كبير منهم، من المؤكد أنهم لم يقرأوا الكتاب. تذكر عبارات ص67 أنّ الظروف الاستعمارية دفعت نساء من جانيت إلى الزواج من فرنسيين طلبا للمأكل والملبس، وأدّى ببعضهن إلى ممارسة الدعارة. وتشير عبارات ص 137 إلى أسطورة ذكرتها مراجع اعتمدت عليها الباحثة في تفسير ظاهرة القناع التارڤي تقول الأسطورة “بأنّه في زمن النبي موسى حبلت أختان بتدخّل من الشياطين، وكلّ واحدة منهما وضعت طفلا، أحدهما كان جدّ البربر والآخر جدّ التوارڤ، وكان لهما رأسا جنّيين وأجساد بشر، ولأنهما كانا بشعين لم يتمكّنا من إيجاد زوجات ترضى بهما. شفق أحد العرب لحالهما وساعدهما في مشروعيهما بتغطية وجهيهما”. إذا تأملنا هذه العبارات في سياقها، وعرفنا طبيعة البحث الذي قامت به مريم بوزيد سبابو يزول اللبس، وتأخذ هذه العبارات حجمها الطبيعي وتُفْهَمُ فهما مناسبا لا يمكن أن يؤدي لمثل هذه الاتهامات الخطيرة الموجهة للباحثة. جاءت عبارات الصفحة 67 في سياق الحديث عن الممارسات الاستعمارية في مختلف مناطق الجزائر، والجميع يعرفها وتذكرها الوثائق، من بينها القتل والتشريد والاغتصاب والتسبب في مظاهر الانحراف الاجتماعي كالتسول ومسح الأطفال الأحذية والدعارة.. ويتذكّر الجزائريون أن أغلب المدن الجزائرية في فترة ما بعد الاستقلال كانت توجد بها بيوت للدعارة. وهو أمر لا ينقص من قيمة المجتمع الجزائري، بل يؤكد حقه في الثورة على المستعمر ويجعله فخورا بالتضحيات التي بذلها بنوه وبناته. ولا أظنّ أن مجتمع جانيت يرضى أن يكون استثناءً من هذا الأمر، فيرفض الاعتراف بما فعله الاستعمار في جميع ربوع الوطن. أما بالنسبة لعبارات ص 137 فهي تروي أسطورة ذكرتها المراجع، ومعروف أن الأساطير هي من خلق الخيال، وهي موجودة عند جميع الشعوب، ولا تخلو ثقافة محلّية منها؛ فالأساطير التفسيرية التي تقدم تفسيرا لظاهرة ما (وهي هنا القناع التارڤي) معروفة في الدراسات الميثولوجية والأنثروبولوجيّة، وهي من ابتكار خيال الجماعات في مراحلها البدائية الأولى، ولا أظنّ أن مجتمع جانيت يمثّل استثناءً أيضا. 2- تتطلّب طبيعة البحث الأنثروبولوجي اتصالا بالناس العاديّين ومحاورتهم وتسجيل رواياتهم، سواء كانت ذات الطبيعة الخيالية أم المتعلقة بواقع علاقتهم بالظاهرة المدروسة وبتاريخها المحلّي. وقد أخذت الباحثة آراء المعنيين من سكان جانيت والتي أدلوا بها مشافهة، وكان من بين ما سجّلته؛ أنه “جرت العادة أن يطلب الفرنسيون أن تُقَامَ لهم سبّيبة على مقاسهم، كما هو الشأن لما بعد الاستقلال، إذ يُطلَبُ من القائمين على سبيبة جمع النساء والرجال لاستقبال الوفود والشخصيات، تحت أشعّة الشمس الحارقة، وفي كثير من الأحيان يتأخر الوفد أو يفضل أن يصل بعد أن تتلطّف الحرارة ويعودون أدراجهم. لكن الوفد قد يستقبل على ضربات “تندي”. أشكّ شخصيّا أن مثل هذه المعلومات هي التي أزعجت بعض موظفي الدولة في جانيت الذين هم مسؤولون عن مثل هذا الاستعمال المناسباتي لتظاهرة السبيبة، فأرادوا معاقبة الباحثة على نقلها لما عاناه أهل السبيبة من مثل هذه الممارسات. وحريٌّ بمواطني جانيت أن يساندوا الباحثة في تنبُّهها لهذا الاستعمال الضار بطقس سبّيبة، والذي قد يتسبّب في “فلكلرتها” وبالتالي زوالها التدريجي. 3- إن ما يحدث من استنفار للسكان وتأليب لهم للوقوف في وجه باحثة أفنت شبابها وعمرها في العناية بثقافة الأهالي وقدّمت ما استطاعت من نصوص وأبحاث في سبيل تسجيل ممارسة ثقافية متوارثة لها مكانتها في حياة الناس، وتمّ تصنيفها من بين الروائع الثقافية العالمية منذ أيام قليلة، بالاستناد هكذا لبعض العبارات اَلْمُؤَوَّلَة تأويلًا خاطئًا وإهمال الكثير من المعلومات والأفكار الإيجابية التي قدّمتها يمثّل استخفافا واضحا بالبحث العلمي، ويكشف عن ضحالة فكر من قادوا هذه المواجهة غير المتكافئة في ظروف سياسية حسّاسة وصعبة يعيشها المجتمع الجزائري، والذي هو في حاجة ماسة إلى تشجيع البحث العلمي في ميدان العلوم الإنسانية، الذي يقوم به أبناؤه اليوم. وكان يقوم به المُستعمِر بالأمس القريب. 4- إن سكوت الباحثين ذوي المستوى الجامعي الذين يدرسون تراث المنطقة، وخاصة منهم الذين ينتمون إليها، عن مثل هذه التصرفات غير المسؤولة التي ترمي إلى التهجّم على البحث العلمي الوطني يمثل موقفا سلبيا، خاصة أنهم الأجدر بأن يكونوا هم المرجع في تقييم البحث وليس أنصاف المتعلّمين. وإذا ما كانت هناك اعتراضات من قِبلهم على ما جاء في البحث فَلِتُنَاقَش الباحثة في الموضوع ويتم استعمال الحجة العلمية بدل الشتم وتأليب الرأي العام. 5- إن أسلوب تأليب الرأي العام حول كتابات المثقفين والعلماء يؤكّد مقولة أن البحث العلمي الحقيقي يحرج كثيرا من الأطراف التي من مصلحتها أن يظل الناس بعيدين عن العلم وأن تظل الأمية منتشرة بين الناس للمحافظة على المصالح والوضعيات، ونذكر هنا ما جرى لطه حسين في مصر في منتصف العشرينيات من القرن الماضي. 6- لقد كان الباحثون في الجزائر هدفا مميّزا للظلاميّة الإسلامويّة، فقتل الإرهاب الأعمى خيرة الباحثين الجزائريين في العلوم الاجتماعية والمثقفين خلال العشرية السوداء، من أمثال المرحومين بوخبزة والجيلالي اليابس وبختي بن عودة وعبد القادر علولة والطاهر جعوط ويوسف السبتي وقنزات رابح وغيرهم، وهاهو الوسط البحثي يتعرّض اليوم لاستغلال عواطف الناس لتأليبهم ضدّ ما يخدمهم وما يصبّ في مصلحتهم. 7- يذكّرنا النظر في مسائل البحث العلمي من قِبل المواطن العادي غير المتخصص بما كان سائدا في ليبيا عندما تحكمت اللجان الشعبية في مختلف النشاطات الجامعية والعلمية، وكان تسييس هذا الأمر شديد الضرر على المجتمع الليبي الذي يعاني اليوم من مثل نتائج تلك الممارسات. 8- لا شك أن إثارة الرأي العام ضدّ كتاب علمي وثقافي له صلة مباشرة بما حدث ويحدث من تهجّم على الأعمال الفنية والثقافية الناجحة. لقد تمّ التهجّم على المخرج لخضر حمينة بخصوص أفلامه، وقيل عنها بأنها تقدم صورة سيئة للمجتمع الجزائري، ونعرف مدى نجاح هذا الفنان في إنجاز مشاريعه السينمائية الكاشفة عن حياة المجتمع الجزائري بجرأة كبيرة وقدرة على تلمّس ما هو جوهري في التاريخ والسلوك، وتمّ التهجّم منذ أيام فقط على فيلم “الوهراني” لأنه يقدّم مجاهدين يتناولون خمرا، ولم يُقَيَّمْ هذا العمل من حيث قيمته الفنية وقدرته على تلمّس التناقضات التي عرفها المجتمع الجزائري بعد الاستقلال، بفعل نتائج مسار الثورة وما خلفته من معاناة وآلام، والمنعرجات السياسية والسلوكية التي حصلت في فترة ما بعد الثورة المسلحة. والتهجّم على كتاب علمي هو نتاج مسيرة بحث ميداني طويل النفس غير مسبوق، في ميدان كان حكرا على الأجانب، ويتعلق بتظاهرة ثقافية عظيمة الشأن، لها حظوة دولية، يعود بدوره لهذا الموقف الأصولي المتخلّف المعادي للعلم والثقافة والفنّ والتطوّر، والذي أصبح يسعى للتحكم في أذواق الناس ومشاربهم، ويعمل على استبعاد وقهر كلّ مُخَالِفٍ لنظرته الضيّقة والمحدودة. 9- يمثل كتاب مريم بوزيد سبابو بحثا أنثروبولوجيا يعتمد على الروايات الشفوية وعلى أشكال التعبير الأدبية وعلى الميثولوجيا، فهو يعالج التاريخ الاجتماعي للمنطقة من هذا الباب. وقد تمّ تأويل ما جاء فيه من قِبَلِ الأهالي وكأنه كتاب في التاريخ، ما سمح بهذه الاتهامات التي تنمّ عن عدم تمييز بين مجالين علميين يختلفان تماما، ولا يمكن قبول الحكم عليه من هذا الباب. [email protected]