لا يعودُ الحضورُ التكفيريّ المشهديّ لرئيس جبهة الصحوة السلفية الجزائرية زيراوي حمداش إلى القضية المُثارة مؤخرًا حول الصحفي والروائي كمال داود فحسب. فقد سبقت ذلك دعواتٌ أخرى كثيرة كان أبرزها دعوته، العام الماضي، إلى إحراق كتب ومُؤلفات أدونيس بتهمة الإلحاد أيضا. هذا فضلا عن تكفيره لبعض الشخصيات الجزائرية العامة وتجنيده للأتباع السلفيين، في مناسباتٍ عامة، من أجل مُراقبة المُجتمع وفرض الوصاية عليه توقا إلى نموذج اجتماعيّ مُتجانس يأنفُ من ”السقوط” في التاريخ الفعلي الطافح بالتعدد ورواسب الثقافات التي تركت أثرها بالجزائر. وأعتقدُ، شخصيا، أنَّ هذه الظاهرة تستدعي منا – بعد الإدانة المُطلقة للتكفير المجانيِّ والدعوات الصَّريحة إلى القتل بالطبع – القليل من التأمل الهادئ بغية الوقوف على جذور هذا التردي الفكري والأخلاقي الذي كان في أساس ”الإسلام الحركي السياسي الراديكالي” في الجزائر والعالم العربيِّ عامة أعتقدُ أنَّ الإسلامَّ الأصوليَّ السلفي الراديكالي يمثل أعمقَ أزمة مع التحديث الفاشل الذي ميَّز مُجتمعاتنا. إنه إفراز الخيبة والنكسات والهزائم وتراجع المشاريع النهضوية والتنموية عبر كل أقطار العالم العربي. أعني أنه إسلامٌ وجد نفسهُ - على الصَّعيد السياسيّ – تعبيرًا عن غضب الفئات المُهمَّشة المسحوقة وملاذا للملايين من الذين وجدوا في الدين صوتا لهم وقلبا حانيا في ”عالم بدون قلب” كما يُعبِّر ماركس. ونستطيعُ أن نلاحظ – على الصَّعيد الثقافي / الفكري – أنه إسلامٌ يعاني من غربته ومن عدم قدرته على مدِّ الجسور إلى العالم المُعاصر، وهذا نظرًا لافتقاره إلى الحركية الحضارية الخلاقة التي ميزت الإسلامَ في الماضي وتمَّ الإجهاز عليها، منذ قرون، بفعل عوامل كثيرةٍ بوَّأت العقل الفقهي صدارة المشهد عندنا على حساب العقل العلمي/ الفلسفي. هذا الوضعُ المُعقد جعل من الإسلام الحركيِّ الراديكالي ثقبا أسودَ كبيرًا يريدُ ابتلاع كل حركية يشهدها المجتمع في تطوره وتفاعله مع اللحظة التاريخية. هذا إسلامٌ – أزمة. وهو، باعتقادي، أبعدُ ما يكون عن ”شهوة المُطلق” التي ميزت التجاربَ الروحية الكبرى في مُحاولاتها عناقَ الكينونة والسَّفر المُضني إلى المعنى المليء أو ردم الهوَّة بين الذات والعالم. إنه، خلافا لذلك، إسلامٌ يُعبِّرُ عن ”شهوة الوصاية” لمُجتمع ذكوريّ/ بطريركي جريح ينتفضُ ضدَّ موته البطيء وضدَّ ”عقدة الإخصاء” التي يُعانيها في عالم رمى في الظل بقيم الفحولةِ القديمة. إنه إسلامٌ مُتعَبٌ مُنهَك يرومُ ”التطهر” من ثقل التاريخ غير المُسَيطر عليه بالانكماش على الذات المُستعادة باعتبارها هوية وملاذا كما يُعبِّر البروفيسور الرَّاحل محمد أركون. ولكنَّ المُشكلة الكبيرة عندنا، هنا، هي في تحول هذا الإسلام – الأزمة إلى نوع من الهوية الجديدة المُنبثقة والتي تجدُ لها أنصارًا ومُدافعين حتى بين المُثقفين أنفسهم. فبدلا من الفهم الجينيالوجي/النقدي للظاهرة الدينيَّة الأصولية، نجدُ بعضَ النخب تتجَرجرُ وراء سِحر الدفاع عن الخصوصية والمُقدَّس انطلاقا من وضع مُتأزم بالأساس. إن وجه المُشكلة، برأيي، يكمنُ في أن البعضَ منا – وبتأثير من فكرة الهوية المُستعادة – ينسى أنَّ القضية الأساسية في نقاشنا هي الدفاع عن كرامة الشخص البشريِّ وحقه في الحياة وفي حرية التعبير التي لا يضبطها إلا الضابط الأخلاقيّ المُتعلق باحترام الإنسان وحقوقه وعدم الدعوة إلى الكراهية والعنصرية والعنف. ولكنَّ الفاجعة الكبرى، على ما أرى، تكمنُ في التواطؤ مع هذا المنحى العام في التعاطي مع القضية من طرف بعض النخب. وإلا كيف نُفسِّرُ تردّدَ الكثير من المُثقفين في الإدانة الصَّريحة لكل دعوات ”إقامة الحد على المُرتدين” في الجزائر؟ إن المسألة المبدئية المطروحة أمامنا اليوم هي: هل نحنُ مع حرية الكاتب ومع احترام الاختلاف الفكري ضدَّ مُمارساتِ التكفير أم لا؟ كأن البعضُ منا يُبرِّرُ، بتردده وصمته، عملية التكفير ويُمارسُ ”لوم الضحية” كما يُعبِّرُ إدوارد سعيد. هذا ما لم أجد له توصيفا سوى أن أقول إنه طبعة جزائرية من ”خيانة المُثقفين”، عندما لاحظنا مُؤخرًا مع قضية كمال داود الأخيرة، أن الكثير من الكتاب والمُثقفين انحرفوا بالنقاش إلى الحديث عن روايته و«مُستواها” و«الجهات المُريبة” التي احتفت به في الخارج في نسيان شبه تام لجوهر القضية المُتعلقة بمُواجهة الكلمة بالسيف. كأنَّ إدانة حكم علني بإعدام كاتب هو ”مسألة فيها نظر” وتبقى ثانوية قياسا إلى القضايا الأخرى التي تثيرها كتاباته ومواقفه. إنني أعلنُ هنا، شخصيا، تضامني مع كمال داود أخلاقيا وإنسانيا وأجهرُ بحقه المطلق في التفكير والتعبير بكل حرية رغم اختلافي معهُ في الكثير من المسائل ووجهات النظر التي تبقى مسائل خلافية لا يُمكنها أن تدفعَ بي إلى الصَّمت أمام مُحاولاتِ انتهاك كرامته البشرية أو تهديد حياته.