عكست الاحتجاجات التي شهدتها واغادوغو ومدن أخرى ببوركينافاسو نهاية 2014، وتنظيم انتخابات ديمقراطية في السنغال في 2012، ثم نجاح نيجيريا في تنظيم انتخابات رئاسية وصفت بالنزيهة، عكست حراك الشارع الإفريقي فيما أطلق عليه ”الربيع الإفريقي” الذي يقترب إلى حد ما من ”الربيع العربي”، وأتى بهدف تقويض أنظمة ”الزعيم الإفريقي الملهم” الذي يمتد حكمه وسلطته لسنوات طويلة، ولأكثر من عهدتين، فضلا عن رفض استبدال الحاكم المستبد بالحكم العسكري الذي يقوض حكما بحكم جديد على أنقاضه يستنسخ نفس أساليبه. عكس هذا التوجه جملة الضغوط الشعبية عن طريق خروج الشعب في احتجاجات ومظاهرات إلى الشارع في مدغشقر بعد حركة انقلابية في 2009، أجبرت العسكر على تحديد مرحلة انتقالية وتسليم السلطة بعد الانتخابات، كما عكسها أيضا فشل العديد من الانقلابات العسكرية لرفض الشعوب منطق الثنائية القطبية بين المؤسسة العسكرية والرئاسة التي غالبا ما يحشدها زعيم يعمر لعشرات السنين، كما فعل الرئيس الكامروني بول بيا في عام 2008. وبرزت في إفريقيا موجات حراك شعبي رافض لترسيخ الحكم الدائم للرئيس الذي غالبا ما يأتي فوق دبابة أو تحت مظلة عسكرية بانقلاب عسكري، وهو ما عكسه الضغط الممارس ضد أقدم رئيس في إفريقيا روبير موغابي البالغ من العمر 89 سنة، والذي يحكم زمبابوي منذ 27 سنة، من 1987، ولكن تأثير الشارع أرغمه على تقاسم السلطة مع المعارض مورغان تسونفيغيرا. ورغم أن إفريقيا تحصي أكبر الحكام المعمرين مثل يوفيري موسيفيني في أوغندا الذي وصل سدة الحكم إثر انقلاب ويحكم أوغندا منذ 29 سنة، ونغيما مباساغو (71 سنة) الموجود في السلطة في غينيا الاستوائية منذ 35 سنة، وخوزي إدواردو سانتوس الموجود على رأس دولة أنغولا منذ 35 سنة، وبول بيا (80 سنة) الذي وصل الى السلطة منذ 33 سنة، فإن مقاومة الشارع الإفريقي أضحت واضحة، وهو ما ترجمه تطور الوعي الجمعي لدى الشعوب وتطور النخب المثقفة وانفتاحها على التحولات العالمية، ما يدفعها إلى المطالبة بحقوقها وتحدي ثنائية الزعيم والعسكر، رغم تحديات التغيير التدريجي التي مثلتها التحولات التاريخية التي حدثت بعد نهاية نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، واعتلاء الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا الحكم دون انزلاق جنوب إفريقيا في حروب ونزاعات، وبقاء مصالح البيض الاقتصادية، ووصول أول زعيم من السود ممثلا في مانديلا من 1994 إلى 1999، وبقائه نموذجا لاحترام التداول على السلطة، وقرار الانسحاب من الحياة السياسية وتنظيم انتخابات دورية ومفتوحة. وأتى الربيع الإفريقي في العاصمة البوركينابية واغادوغو في شكل ”انقلاب ناعم”، من خلال احتجاجات وتظاهرات شعبية أتت رغم الاستقرار الذي كان يميز بوركينافاسو الدولة الفقيرة التي تعد واحدة من دول الصحراء الكبرى المحاطة بالنزاعات والحروب والانقلابات، إلا أنها ثارت ضد الفساد الاقتصادي والمالي، ووقفت في وجه المصادقة على مشروع تغيير دستوري معروض على البرلمان البوركينابي، كان سيسمح في حالة الموافقة عليه بأن تكون للرئيس 3 عهدات بدل عهدتين، إلا أنها نجحت في مسعاها وأطاحت بالرئيس البوركينابي بليز كومباوري بعد 27 سنة من الحكم غير الديمقراطي. كما أضيف الانقلاب الذي حدث الأسبوع الماضي في بوروندي، رغم فشله، إلى سلسلة الانقلابات العسكرية في القارة السمراء، وقد خطط له 5 جنرالات في الجيش البوروندي ضدّ نظام الرئيس بيير نكورونزيزا، في وقت يشهد الشارع البوروندي احتجاجات ومظاهرات عارمة تنديدا بولاية رئاسية ثالثة، وأتى الفشل بعد عدم تمكن العسكر المنشقين من السيطرة على المنشآت السيادية الرسمية، ليكون اعتراف من الرجل الثاني في حركة التمرد الجنرال سيريل ندايروكيي بفشل الانقلاب الضربةَ التي بددت كل الآمال. ومع ذلك تبقى القارة السمراء تعيش على واقع التجاذبات، فالأنظمة لا تزال رهينة شبكة تحالفات خارجية لاسيما مع القوى المؤثرة، مثل فرنسا التي تسعى إلى الإبقاء على مصالحها الاقتصادية والسياسية منذ اعتماد سياسة ”جاك فوكار”، كما أن العسكر يعكسون أمن النظام الحاكم إلا إذا تباعدت مصالحهما. وسجلت وتيرة الانقلابات في إفريقيا تراجعا، حيث قدرت مثلا خلال العشرية الماضية 2005-2015، بحوالي 10 انقلابات، وهي من أدنى النسب مقارنة بالسبعينيات التي بلغت 26 انقلابا، و14 انقلابا في التسعينيات، كما أن دور الشعوب أضحى مؤثرا في مسار الأحداث، بدليل مساهمتها في إفشال عدة محاولات انقلاب، أو إجبار العسكر على تسليم الحكم بسرعة، كما حدث بعد انقلاب مالي في 2012، حيث دفعت الاحتجاجات وردود الفعل العسكر إلى التراجع، وسمح بتنظيم انتخابات تعددية فاز بها إبراهيم بوبكر كايتا في 2013. البروفيسور السوداني حسن مكي ل ”الخبر” ”الاحتجاجات لن تؤدي إلا للحروب الأهلية” قال البروفيسور السوداني حسن مكي في تصريح ل”الخبر” إن كلمة ”الربيع” أخرجت عن معناها، مشيرا إلى أن ما يحدث في الدول الإفريقية والعربية على حد سواء أدى بها إلى الدرك الأسفل، من ظلام الدكتاتوريات إلى الحروب الأهلية، مشددا على أنه ”لا يوجد أصلا ربيع، بل حرب أهلية ورجوع إلى ما قبل عصور التنوير، سفك للدماء وقتل ومزيد من النازحين”. واعتبر البروفيسور أن الأكاديميين والإعلاميين ومختلف النخب المثقفة مشاركة فيما يحدث، موضحا ”لقد ظلمنا أنفسنا ودفعنا بالأوضاع من سيئ إلى أسوء، فالقوة المفترسة واحدة سواء في الدول العربية أو الإفريقية، وتتمثل في إسرائيل وأمريكا، هما وراء التمزق والتفتت والتشتت الحاصل، الحركة الحاصلة في إفريقيا أو في الدول العربية واحدة والمصير واحد، الغرب هو من نصب النظام الحاكم في رواندا وهو ما ثار الشعب ضده”. وحول ما إذا كانت هناك خصوصية إفريقية تميز الحراك الشعبي في مالي والاحتجاجات الشعبية في بوركينافاسو والتي أدت إلى تغيير السلطة، عما حدث في الدول العربية، رد البروفيسور ”لكل بلد خصوصياته، إلا أن الدكتاتورية وعقلية البطش واحدة في الأنظمة العربية والإفريقية، فالشعوب مظلومة ومهضومة الحقوق، حرمت من أبسط حقوقها الشرعية”، وأردف ”مصر بلد عربي وإفريقي، وشاهدنا صدور 1700 حكم بالإعدام في ظرف سنة واحدة، بمعدل حوالي 10 أحكام إعدام يوميا، والصومال بلد إفريقي دمر جيشه، وهو دليل قاطع بأن هذا الحراك قاد الشعوب من الظلام إلى الظلام”. كما تطرق حسن مكي إلى انعدام الديمقراطية في الدول الإفريقية، مبرزا أن الديمقراطية التي كان من الضروري أن تتوفر تتمثل في الانتقال السلمي للسلطة لا البقاء في سدة الحكم أكثر من عهدتين، بل وتمتد إلى ما فوق 30 سنة في بعض الدول الإفريقية، وبالتالي لا يمكن القول إن ما تعاني منه الدول الإفريقية فقر وأمية وصراعات على أسس قبلية وإثنية، فضلا عن تنامي ظاهرة الإرهاب، لن يؤثر في مسارات الانتقال الديمقراطي غير الموجود أصلا، مواصلا ”ليس هناك أي مؤشرات بأننا مقبلون على فترة الديمقراطية، بل السائد هو حكم استبدادي يؤدي إلى انتشار السلاح، والغرب هو المستفيد الأكبر من كل ما يحدث، ليتحرك بعدها تحت مسميات عدة كمنظمات خيرية، واليوم أضحى من الضروري التفكير بجدية في أبجديات التداول السلمي على السلطة في الدول الإفريقية، بعيدا عن الاحتجاجات التي لن تؤدي إلا لحروب أهلية، ولا تخرج من الظلام”. المحلل السياسي الرواندي، البروفيسور عمر خلفان، ل ”الخبر” ”الجيوش الإفريقية يمكنها أن تلعب دورا في التحول الديمقراطي” هل قرار الرئيس البوروندي الترشح لعهدة رئاسية ثالثة يتوافق مع دستور هذه الدولة؟ الرئيس البوروندي وأنصاره يعتبرون ترشحه للانتخابات المقبلة يتوافق مع ما نصت عليه اتفاقية ”أروشا” التي وقعت في سنة 2000، ووفقا للدستور فله الحق في الترشح لعهدة رئاسية ثالثة، وحسبه فإنه لما وصل إلى الحكم في 2005 كان نظام الحكم في البلاد برلمانيا (الرئيس ينتخب من نواب البرلمان)، لكنه في 2010 انتخب مباشرة من الشعب، ومادام انتُخب مرة واحدة من الشعب فإنه سيترشح لعهدة رئاسية ثانية وليست ثالثة (بمعنى أنه لم يحتسب العهدة الأولى التي انتُخب فيها من النواب). لكن ما هو موقف المعارضة من هذا التأويل السياسي لعدد العهدات الرئاسية؟ المعارضة البوروندية ترى أنه بحسب اتفاقية أروشا بتنزانيا، فإن الرئيس لا يحق له الترشح لأكثر من عهدتين غير قابلتين للتجديد، والرئيس البوروندي حكم عهدتين ولا يحق له الترشح للثالثة، لكن حزبه بإمكانه ترشيح شخص آخر، لذلك خرج المتظاهرون في بوروندي ليقولوا نحن لا نريد انتخاب الرئيس 3 مرات، مادام حكم 10 سنوات فلا بد من ترشيح شخص آخر غيره، والمظاهرات اندلعت في بوجمبورا وبعض القرى البوروندية، لكن الأمن منع الناس في القرى من التظاهر. كيف فشل الانقلاب على الرئيس المترشح في بوروندي؟ الذين قاموا بالانقلاب هم جزء من العسكر وليسوا كل العسكر، إذ أعلن الانقلابيون عن عزل الرئيس البوروندي (عندما كان متواجدا خارج البلاد)، لكن العسكريين الموالين للرئيس حاربوهم وهزموهم. من هم كبار قادة الجيش الذين وقفوا إلى جانب الرئيس ضد الانقلابيين؟ وزير الدفاع وقائد الأركان كانوا مع الرئيس، في حين قاد الانقلاب قائد المخابرات العامة الذي أقيل قبل شهرين بعد رفضه ترشح الرئيس مرة أخرى وراسله في هذا الشأن، وانضمت إليه فصائل من الجيش، لكن الانقلاب فشل، وبعض الضباط الذين شاركوا في الانقلاب سلموا أنفسهم للقوات الموالية للرئيس. ما هو موقف المجتمع الدولي من ترشح الرئيس البوروندي لعهدة رئاسية ثالثة؟ دول شرق إفريقيا والأمم المتحدة وأمريكا وفرنسا والدول الكبرى عارضت ترشح الرئيس بيار نكورونزيزا لعهدة رئاسية ثالثة، لأن ذلك ضد ما تنص عليه اتفاقية أروشا. عدة بلدان إفريقية شهدت مظاهرات ضد ترشح رؤسائها لأكثر من عهدتين، هل نحن أمام ربيع ديمقراطي إفريقي؟ الديمقراطية في إفريقيا لا يمكن تطبيقها حرفيا مثلما هو موجود في الغرب، فخبراء السياسة يرون أن هناك أساسيات واحدة للديمقراطية، ولكن السؤال الذي يطرح: هذه الديمقراطية كيف تنفذ؟ لا بد أن يؤخذ في تطبيق الديمقراطية عاملان: الأول هو التاريخ، والثاني هو الثقافة. فالديمقراطية تشكلت على أسس الثقافة الأوروبية، ولا يمكننا أن نأخذ الديمقراطية كما هي ونطبقها كما تطبقها فرنسا، فبعض الدول الإفريقية دخلت المسار الديمقراطي، ومنها من فشل مثل زيمبابوي ومنها من نجح مثل السنغال وغانا وجنوب إفريقيا، كما أن رواندا وتنزانيا وكينيا دخلت المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي. هل يمكن أن تلعب الجيوش الإفريقية دورا مساعدا في التحول الديمقراطي؟ أم أن تدخلها في السياسة خطر على الديمقراطية؟ المؤسسة العسكرية يمكن أن تلعب دورا في التحول الديمقراطي، لكن دورها الرئيسي هو حفظ الأمن والسلم وليس التدخل في السياسة، وفي بوركينافاسو وقعت مظاهرات وتدخل الجيش وأقال الرئيس، والآن دخلت بوركينافاسو مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية. الباحث المالي في الشؤون الإفريقية بباريس، حمدي جواره، ل ”الخبر ” ”إفريقيا تعيش اليوم صحوة سياسية ويقظة حقيقية” يرى الكاتب والباحث المالي في الشؤون الإفريقية بباريس حمدي جواره، من خلال حديث خص به ”الخبر”، أن ما يجري حاليا في إفريقيا عبارة عن مؤشرات تدل على أن هناك صحوة سياسية ويقظة حقيقية بالنظر إلى كل ما يحدث اليوم في العديد من الدول الإفريقية، بداية من بوركينافاسو ووصولا إلى بوروندي، مستبعدا وجود ربيع إفريقي على غرار ما يسمى بالربيع العربي وما وقع في العالم العربي من منعطفات خطيرة منذ 2011. وأوضح الباحث بأن يقظة المجتمع المدني والرأي العام الإفريقي تعود إلى تطور وسائل الاتصال الحديثة، سواء فيما يتعلق بالقنوات الفضائية أو مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تناقش مختلف القضايا السياسية من قبل الشباب وحتى القوى السياسية التي تعمل على تحقيق رغباتها من خلال تنظيم المظاهرات والإخلال بتوازن قرارات النظام، معتقدا بأن ما وقع في بوركينافاسو ليس ربيعا وإنما إدراك للإنسان البوركيني أو الإفريقي بصفة عامة لخطورة مس الدستور وتغييره من قبل الرؤساء من أجل تمديد الفترات الرئاسية، مع أنها ليست دولا ملكية إن صح القول وإنما بلدان تخضع لنظام التداول على السلطة، الأمر الذي سيدفع حسب اعتقاده بالرئيس البوروندي الحالي الذي فشلت بوادر الانقلاب عليه إلى التراجع عن العهدة الثالثة. وعن دور المؤسسات العسكرية في كل ما يجري، أبرز حمدي جواره بأن هذه الأخيرة ليست بمنأى عن الحياة السياسية، فهناك ارتباط قوي بين الجيش والنظام السياسي داخل كل الدول الإفريقية بما فيها البلدان العربية، فعلاوة على مهماتها الأساسية المرتكزة على تأمين الحدود والاهتمام بأمن الوطن، فإن كلمتها موجودة وهي تتحكم في تسيير كل ما يتعلق بمسار الدول الإفريقية لاقترابها الشديد من السلطة التنفيذية، وخير مثال على ذلك ما حدث في مصر مع عبد الفتاح السيسي.