جاء هذا التّحذير الرّبّاني بعد آيات الصّوم، فقال تعالى عقب آيات الصّيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. يقول صاحبُ الظِّلال: “وفي ظلّ الصّوم، والامتناع عن المأكل والمشرب، يَرِدُ تحذيرٌ من نوع آخر من الأكل: أكل أموال النّاس بالباطل، عن طريق التّقاضي بشأنها أمام الحكام اعتمادًا على المغالطة في القرائن والأسانيد، واللّحن بالقول والحجّة، [ودفع الرّشاوى والهدايا]، حيث يقضي الحاكم بما يظهر له، وتكون الحقيقة غير ما بدَا له. ويجيء هذا التّحذير عقب ذكر حدود الله، والدّعوة إلى تقواه، ليظلّلها جو الخوف الرّادع عن حرمات الله”. وقال الشّيخ ابن عاشور: “والمناسبة [بين هذه الآية وآيات الصّيام] أنّ قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} تحذيرٌ من الجرأة على مخالفة حكم الصّيام بالإفطار غير المأذون فيه، وهو ضرب من الأكل الحرام؛ فعطف عليه أكل آخر محرّم، وهو أكل المال بالباطل، والمشاكلة زادت المناسبة قوّة”. والمراد بالآية: لا يأكل أحدُكم مالَه إلاّ على وجه مشروع، ولا يأكل مال غيره إلاّ كذلك، فالتّعبير ب{أَمْوَالَكُمْ} يشمل هاتين الصّورتين، وفيه إيماء إلى معنى هام وحقيقة خطيرة؛ ذلك أنّه قد يقول قائل: مادامت هي أموالي فلماذا لا آكلها كما أشاء؟ فيقال له: إنّ الأمر هنا للجميع، والأموال مضافة للجميع، فالمال ساعة يكون ملكًا لك، فهو في الوقت نفسه يكون مالاً ينتفع به الغير، فهم يملكونه من هذا الوجه ولهم فيه حقٌّ. وهذا التّعبير ب{أَمْوَالَكُم} دون التّعبير بأموال بعضكم بعضًا، يشعر بوحدة الأمّة وتكافلها ومسؤوليتها في حفظ ثرواتها ومحاربة الفساد المالي، وينبّه إلى أنّ احترام الإنسان مال غيره وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لماله أيضًا، إذ استحلال الإنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإنسان المتعدي، وإذا فشَا هذا السّلوك في أمّة من الأمم أدّى بها إلى الضّعف والتّعادي والتباغض. فما أحكم هذا التّعبير، وما أجمل هذا التّصوير، وما أخوف هذا التّحذير! * إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة