ليس من السهل على أبناء منطقة الصومام نسيان قصة السفاح محند البشير المدعو “الدموي” أو مسحها من ذاكرتهم، حيث بدأ سجله الإجرامي لما كان طفلا عمره سبع سنوات، لم يتردد في لحظة ضعف في القذف بشقيقه البالغ من العمر ثلاث سنوات داخل بئر، ليلوذ بعدها بالفرار دون أن يخبر أحدا، لتقوم العائلة بإخفاء السر حفاظا على سمعتها. مع بداية السبعينيات قرر البشير الهجرة إلى فرنسا رفقة عدد من أبناء قريته بحثا عن العمل، اشتغل في البداية في مصنع للمشروبات الكحولية كحمّال، ثم انتقل إلى مصنع للبلاستيك، حيث قضى فيه ثلاث سنوات تعرّف خلالها على عاملة بسيطة فرنسية الأصل تدعى “فيرونيك”، وارتبط معها قبل أن تنتهي علاقتهما بالزواج وينجب معها أربعة أطفال. خيانة فجريمة كانت العلاقة بين الزوجين مثالية، إلى غاية يوم انتابه الشك بعلاقة لها مع صديق لهما، حيث وجدهما وحيدين داخل غرفة فندق ملك لأحد المغتربين. البشير أصيب بالهيجان وفقد عقله ولم يتقبل الخيانة من زوجة عاش معها 12 سنة كاملة وأم أولاده، وأكثر من ذلك كان يعشقها كثيرا. حاول في بداية الأمر أن يفتح معها نقاشا حول مسألة الخيانة، لكنها أقنعته بأن لا شيء حدث بينهما. مضت أيام قليلة على النكسة ولم يرتح بال البشير، حيث أعد خطة للقضاء عليها. دعاها إلى سهرة بأحد المطاعم الباريسية وتركها تتناول الكحول إلى حد الثمالة، ليقذف بها من إحدى الشرفات، ويطلب بعدها النجدة مدعيا أنها سقطت لوحدها، ورغم شكوك الشرطة بأن الفعل جريمة، إلا أن غياب الأدلة جعل العدالة تقتصر على إدانته بثلاث سنوات حبسا نافذا. بعد استنفاد العقوبة، قررت الشرطة الفرنسية طرده إلى الجزائر، ليعود من جديد إلى قريته بمنطقة الصومام، وبدأ النشاط في الفلاحة، حيث قام باستصلاح مساحات واسعة من المنطقة الغابية، وبنى منزلا أحاطه بحدائق زاخرة من الأشجار المثمرة، ورغم طابعه الانعزالي، وبحسن نية تدخل أفراد العائلة وتمكنوا من إقناعه بالزواج من إحدى بنات القرية، وهي ابنة عمه.. استمرت الحياة الزوجية الجديدة لبضع سنوات، حيث أنجب معها ثلاث فتيات، جوهر، عبلة وسمراء. توالت الأيام العادية والهنيئة على البشير وعائلته الجديدة، كان يصحب ابنته الكبرى إلى الحقول، حيث يقطف لها أحسن الثمار وألذ الفواكه، واستطاع أن يشتري بندقية صيد لحراسة بساتينه من اعتداءات الذئاب والخنازير، وغالبا ما يعود إلى البيت محملا بعدد من الطيور والأرانب البرية التي يتم اصطيادها، وحتى زوجته الملمة بفنون الطبخ كانت تحضّر له وجبات وفق ما يشتهيها. هبت رياح الشك فقتلها استمرت حياة البشير على هذا النحو، إلى أن هبت الرياح التي عصفت بعقله لما انتابه شك من جديد في وفاء زوجته له، فراح يصطنع في مخيلته أحداثا تثير غضبه وعصبيته.. تخيل أكثر من مرة أن رجلا دخل بيته وحدث أن انهال على زوجته بالضرب المبرح، مطالبا إياها بالاعتراف بما اقترفته من ذنب، وهي المسكينة تنفي وتقسم له بالوفاء دون أن يشفع لها ذلك في شيء، وأكثر من ذلك قيّد يديها وقدميها وتركها تتعذب في إسطبل المواشي، وبلغ به الأمر أن هدد ابنته بالذبح إن لم تكشف اسم الرجل الذي يدخل إلى البيت دون علمه. استمر البشير في التحرش بزوجته من أجل كسب الاعتراف من جانبها والبوح له بما يريد أن يسمعه، لكن دون جدوى، وأدركت الزوجة أن زوجها منهار عصبيا ومريض عقليا، وأنه لا حيلة لها إلا الصبر والتحمل ومواجهة الأخطار المحدقة بها. أما من جانب البشير، فإن القناعة المطلقة هي قتل الزوجة الخائنة في ذهنه وقرر استحضار سيناريو الزوجة الباريسية، فدعا زوجته لقضاء وقت معه في البستان حيث يتواجد كوخ صغير يستعمله للقيلولة.. الزوجة بمجرد دخولها الكوخ ذهلت لما شاهدت فوق المائدة الخشبية من فواكه مختلفة ومشروبات متنوعة.. ترك المسكينة تغرق في أحلام لم تتعود عليها حتى أخرج حبلا طويلا، قيّدها من يديها، وجرّها مثل الشاة إلى البئر، إلى أن أغمي عليها، ففكّ قيودها ورماها إلى عمق البئر، ليعود بعدها إلى البيت مدعيا انتظار عودة زوجته من بيت أهلها. حلّ الليل ولم تعد الزوجة، لتدخل القرية كلها في حالة استنفار بحثا عن الزوجة المفقودة، واستمر المتطوعون وأفراد العائلة في البحث، إلى أن عثروا عليها في البئر، حيث شاع خبر انتحارها، وحتى الجرائد آنذاك نشرت موضوع انتحار زوجة وأم لثلاثة أطفال. اكتشاف الحقيقة إذا كان رجال الإعلام وأفراد العائلة قد استسلموا للأمر الواقع وتقبلوا مسألة الانتحار، ليس الأمر كذلك عند المحققين من رجال الأمن الذين تعمقوا في دراسة تقرير الطبيب الشرعي الذي تضمن أن الضحية تلقت ضربات قبل وفاتها على مختلف مناطق من جسمها، وأن آثار القيود قائمة، فقرروا استدعاء الزوج لتعميق البحث دون توجيه أي تهمة له. لكن هذا الأخير الذي اعتقد أن الحقيقة قد انكشفت، استقبل رجال الدرك الذين توجهوا إلى بيته بطلقات نارية من بندقيته، رافضا الاستسلام. وفي كل مرة يدرك قدوم رجال الدرك، يلجأ إلى بندقيته ويوفر لنفسه فرصة الفرار نحو الغابة. استمرت هذه اللعبة شهورا عدة، حصّن البشير، خلالها، نفسه بمجموعة من الكلاب المدربة وببندقيته، وكثيرا ما يمر وسط القرية رفقة ثلاثة من كلابه حاملا بندقيته وحزامين معبأين بالخراطيش، ويتبادل التحية مع الناس، ويشير إليهم بيديه ويقول “هؤلاء لن يبلغوا مقامي أبدا”، في إشارة إلى رجال الدرك الذين يبحثون عنه. يكتم أنفاس طفلته بعد فترة طويلة من الغياب قضاها البشير في الغابة، عاد إلى بيته ليصعق باختفاء ابنته الكبرى التي فرّت لتقيم ببيت خالتها في المدينة وتركت شقيقتيها وحيدتان بالمنزل، خاصة أن الصغيرة لا يتعدى عمرها السنتين والأخرى سبع سنوات. حاول في الليلة نفسها إحضار ابنته البكر إلى البيت، لكنه فشل بسبب معارضة العائلة التي تكفلت بها، وكرر محاولاته عدة مرات لكن دون جدوى، إذ في كل مرة تلجأ الخالة إلى الاستنجاد بالشرطة ليلوذ بالفرار.. أقسم بالانتقام، ومطاردة الدرك له جعلته أكثر عصبية ووعد نفسه بقتل ابنته مهما كلفه الأمر. في ليلة شتوية باردة، تناول البشير وجبته الغذائية التي أعدها بنفسه مع ابنته عبلة، صاحبة السبع سنوات، بينما سمراء التي لا يتعدى عمرها السنتين كانت تئن من المرض نتيجة الحمى المرتفعة، وبعد أن نظف الأواني طلب من عبلة أن تخلد إلى النوم رفقة شقيقتها وأن تناولها الدواء. مرت ساعات الليل بصعوبة على البشير الذي حرمه بكاء ابنته من النوم، وفي حدود الثالثة صباحا، وهو في حالة هيستيريا متقدمة جدا، دخل غرفة الطفلة المريضة وأخذها بين يديه إلى خارج البيت وهي في حالة صراخ شديد وعلى بعد مائة متر من البيت توقف صراخ الطفلة المريضة وتوقفت بذلك حياتها، لما قرر والدها خنقها حتى الموت ودفنها في حديقة مجاورة للبيت العائلي ويعود من جديد إلى البيت ليخلد إلى النوم العميق بثيابه الرثة. وكعادته، نشر بين سكان القرية خبر اختفاء ابنته الصغيرة وألصق تهمة اختطافها لأفراد من عائلة زوجته، وهي الرواية التي صدقها الجميع. وبعد فترة، سقط السفاح في كمين لرجال الدرك الوطني بينما هو في الطريق إلى مدينة القصر ببجاية لقضاء حاجة له ووقع في يد الذين تمكنوا من السيطرة عليه دون أن تنفعه لا بندقيته ولا شيء آخر، حيث اقتيد إلى الحبس. المحاكمة.. يوم مشهود كثير من أبناء القرية الذين عرفوا حقيقة السجل الإجرامي للدموي جعلوا من يوم محاكمته عطلة لهم حتى يحضروا ما سيقوله البشير لرئيس المحكمة، خاصة بعد ما كشفت التحقيقات أنه القاتل الفعلي لزوجته. حاول أن يدافع عن نفسه بأن المسألة متعلقة بالشرف. “والزوجة الفرنسية؟ هل هي قضية شرف أيضا؟”، سأله القاضي فرد بالإيجاب، وسأله أيضا إن كانت بندقيته مسجلة، فرد بالنفي، وسأله عن سبب حمله لقب “سانڤينار” أي “دموي”، فقال لأنه يهوى قتل الخنازير التي تعبث ببساتينه، ليثير بذلك موجة ضحك داخل القاعة لم يستثن منها حتى رئيس الجلسة والمحلفون، وبصعوبة أعاد القاضي الهدوء إلى القاعة، وبعد المداولات عادت هيئة المحكمة لتعلن عن إدانة البشير الذي يبلغ من العمر 67 سنة بعقوبة 10 سنوات سجنا نافذا. ابنته تعيده إلى السجن قبل أقل من عام واحد من استنفاد البشير العقوبة، تفاجأ الجميع وحتى المجرم نفسه بظهور جريمة أخرى في سجله الإجرامي، حيث حمل له المحققون مفاجأة غير سارة تتمثل في كل تفاصيل قتل ابنته الصغيرة عبلة، اعتمادا على تصريح لابنته الأخرى التي قادت المحققين إلى موقع الجريمة ومكان دفنها، حيث تم استخراج جثتها بعد سبع سنوات من دفنها، لتعرض على الخبرة الطبية التي أكدت أن سبب الوفاة هو الخنق حتى الموت، حيث قالت الطفلة التي بلغت 14 سنة من العمر إن والدها العصبي لم يتحمل بكاء وصراخ شقيقتها المريضة فأخذها خارج البيت وقتلها وادّعى أنها اختطفت. بعد المحاكمة الثانية، سلطت عليه عقوبة السجن المؤبد ولايزال بعد 30 سنة قابعا في السجن، ولايزال المحققون إلى اليوم يواصلون التحريات للكشف إن كان الدموي هو قاتل عدد من أفراد قريته، منهم الرجل محل الشك بعلاقة مع زوجته المقتولة. "الجرائم الصامتة.. من أصعب الجرائم" قال القاضي السابق بالمحكمة العليا، علي بدر عابد، إن مثل هذه الحالات كان يجب مراقبتها عن قرب وتسجيل كل تصرفاتها مهما كانت طبيعتها وحجمها. واعتبر حالة البشير خطيرة جدا، بارتكابه “جرائم صامتة” من الصعب على المحققين تشخيصها بسهولة، خاصة أن المجرم ذكي جدا في طريقة التستر على جرائمه والدليل على ذلك أن جريمة الطفلة ما كان للمحققين أن يتعرفوا عليها لولا شهادة شقيقتها. ويبقى الحل الأمثل هو تمكين رجال الأمن بتوفير الحماية القانونية لهم، لفرض مراقبة ومتابعة غير مباشرة للأشخاص المتهمين بارتكاب الجرائم دون إزعاجهم حتى يقودوا أنفسهم إلى نهاية الاعتراف.