يعود الحديث مرة أخرى حول مقاطعة التظاهرات الثقافية والسينمائية التي يشارك فيها “الكيان الإسرائيلي”، وقد وضع سينمائيون تونسيون يدهم على “الجرح” مجددا، وأعلنوا رفضهم حضور أفلامهم في مهرجان “لوكارنو” السويسري، لتوقيعه عقد شراكة مع وزارة الخارجية “الإسرائيلية”. في مقابل ذلك، حالة من الصمت خيمت بخصوص مشاركة خمسة أفلام جزائرية. اقتربت “الخبر” من مجموعة من المخرجين للوقوف على القضية، حيث تباينت الآراء بين مؤيد للمشاركة ومعارض، ليطرح التساؤل: “إلى أي مدى يمكن اعتبار حضور أفلام عربية في مهرجان يرفع فيه علم الكيان الإسرائيلي اعترافا “ضمنيا” بدولة الكيان المحتل”. عاد الجدل حول مفهومي المقاطعة والتطبيع مع إسرائيل، خاصة في الأوساط الفنية والثقافية، ويتعلق الأمر هنا بالإنتاج السينمائي العابر للحدود والصراعات السياسية والمشاركات في المهرجانات الدولية، حيث علت هذه الأيام أصوات من الجارة “تونس”، تعلن المقاطعة وعدم المشاركة في مهرجان “لوكارنو” السويسري الذي سيكرم السينما المغاربية بسبب مشاركة إسرائيل فيه. فحسب المنتجة السينمائية درة بوشوشة التي تقود الحملة رفقة عدد من السينمائيين التونسيين، فإن الانسحاب من مهرجان “لوكارنو” السويسري الذي ينتظم إلى غاية 15 أوت، هو الخيار الأمثل لحفظ ماء وجه العرب رغم تكريم المهرجان للسينما المغاربية، ليس فقط بسبب حضور الأفلام الإسرائيلية، بل أيضا قيام المديرة الجديدة للمهرجان بقطع الدعم عن الأعمال الفلسطينية. لكن المفارقة الكبرى اليوم أن السينما الجزائرية تبدو الأكثر تصالحا بالنسبة لمسألة المشاركة في المهرجانات التي تحضر فيها أعمال “إسرائيلية”، لهذا نجد مشاركة المخرج الجزائري مرزاق علواش بفيلم “السطوح” العام 2013 في مهرجان “فينسيا” تمر بسلام، بالإضافة إلى خمسة أفلام جزائرية، “قافلة” للمخرج الجزائري طارق تقية، “الصيف لايزال بعيدا” للمخرج مالك بن إسماعيل، والفيلم القصير للمخرج حسان فرحاني “طارزان”، كما يشارك ثلاثة مخرجين جزائريين شباب في فئة “الأبواب المفتوحة” وهم المخرج الشاب كريم موساوي بفيلم “في انتظار السنونو”، نريمان عطية وأمين سيدي بومدين، حيث تم اختيار مشاريعهم السينمائية للمشاركة في المهرجان، كل هذا دون “ضجيج” تلك الحناجر التي تعودت أن ترفع صوتها بالتنديد ومقاطعة إسرائيل بكل الطرق، ودون تدخل من وزارة الثقافة الجزائرية أو إحدى الجهات المكلفة بالإنتاج، على غرار صندوق دعم صناعة وتقنيات السينما “فداتيك” الذي شارك في دعم هؤلاء المخرجين. في مقابل ذلك، يصر المخرجون الجزائريون على المشاركة في فعاليات هذا الحدث السينمائي السويسري، رغم كشف المخرجين التونسيين تفاصيل عقد الشراكة مع وزارة الخارجية “الإسرائيلية”.
نظرة مختلفة لمفهومي المقاطعة والتطبيع قبل نحو شهرين، ثارت الدنيا في الجزائر وصرخ الجميع مخاطبا المخرج الجزائري الشاب إلياس سالم “ويحك” كيف تقبل أن يعرض فيلم ممول من أموال الشعب الجزائري ضمن فعاليات مهرجان “أشدود الإسرائيلي”. موجة من الغضب عصفت بمخرج فيلم “الوهراني”، دفعته إلى سحب فيلمه من المشاركة. ومقارنة بزمن مضى، تبدو قناعة الدول العربية اليوم بمفهوم المواجهة أكبر وأقوى من مفهوم “الدفاع” والهروب إلى الأمام، كما نلحظ رغبة المثقف العربي في التمييز بين مفهوم “التطبيع” الذي كان قبل نحو عشرين عاما مرتبطا بكل حدث يرد فيه اسم “إسرائيل”، ومفهومه اليوم، خاصة مع تقنيات التواصل الاجتماعي التي فتحت المجال على أوسع أبوابه، ليعبر المواطن العربي عن آرائه بكل حرية، فلم تعد المهرجانات الثقافة العالمية التي يستغلها الكيان الصهيوني للترويج “لبضائعه” تقلق السينمائي العربي، بل باتت محطة تنافسية يقودها منطق “لا نعترف بإسرائيل، وهي عدو دائم، يجب أن نواجهها ونهزمها في كل المحافل الثقافية العالمية، وأن صوت العالم العربي يجب أن يصل إلى أبعد حدوده”.
تطبيع أم “زوبعة في فنجان؟” تتجلى المواقف العربية المزدوجة والمتباينة في مسألة التعامل مع إسرائيل خاصة إعلاميا نهاية تسعينيات القرن الماضي، حيث كان ظهور المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لأول مرة بمثابة “الصدمة الإعلامية العربية”. لم يستسغ الكثيرون التجربة، بينما علت في الآفاق أصوات عربية أخرى تدافع عن التجربة و«تباركها”. لم يعد تجاهل إسرائيل أمرا مجديا، ويجب أن نعرف فيما يفكر الآخر وما يقول وماذا يخطط له، لهذا باتت اليوم عديد القنوات العربية تفتح ميكروفوناتها للمتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، وكل ما يقوله مادة دسمة تثير الانتباه، إلى أن أصبحت وسائل الإعلام العربية تنظر إلى تصريحات الحكومة الإسرائيلية في وسائل الإعلام كمصدر موثوق، فتجد العناوين العريضة في أهم الصحف العربية تكتب “قالت صحيفة هآرتس” و”أضافت يديعوت أحرونوت الإسرائيلية”، هذا إعلاميا.
أما فنيا وسينمائيا، فقد حملت القاهرة منذ سنوات، أول أمواج الجدل حول المشاركة في المهرجانات السينمائية التي تحضر فيها أفلام “إسرائيلية”، في مفارقة غريبة من القاهرة التي بها سفارة رسمية للكيان الإسرائيلي، حيث رفع مخرجون وسينمائيون وممثلون ومثقفون في مصر شعار “نقاطع المهرجانات التي تشارك فيها أفلام إسرائيلية”، ليدور بذلك جدل كبير وصل مداه إلى فرنسا، بسبب عرض المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة العام 2010 فيلم “شبه طبيعي” للمخرجة الإسرائيلية كارين بن رافاييل، ضمن فعاليات الدورة السادسة لأيام “لقاء الصورة”، وقد اعتبر الأمر نوعا من “تدخل السياسة في العمل الفني”، من خلال إقحام فيلم إسرائيلي ضمن فعاليات الدورة. وفي نهاية المطاف عرض الفيلم وطويت القضية ولكن المسألة أنجبت معارضين ومؤيدين للمبادرة في العالم العربي، وكسر بذلك جدار الصمت الذي ظل يحاصر مفهوم “التطبيع الثقافي” منذ العام 1948.