رغم أن منتجع تامنفوست “لابيروز” سكنت مخيّلة عديد الجزائريين من عشاق رياضات البحر ومحبي اللهو والمجون والصيد حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، إلا أن المنتجع المتواضع لم يعرف تطورا، بعد أن زحزحته منتجعات أخرى في غرب العاصمة كنادي الصنوبر و(لامادراك)، وإن كانت بعض العائلات تتردد بانتظام على شواطئه، فإن أبناء تامنفوست يقولون لك إن لا شيء تغيّر في المنطقة منذ ثمانينيات القرن الماضي. تبرز كل الخطاطات التاريخية، أن “تامنفوست”، مكان له أكثر من دلالة تاريخية، تقاطعت فوقه طموحات الفنيقيين والنوميديين والبيزنطيين والرومان. منتجع تاريخي أسّس الفينيقيون خلال القرن الرابع قبل الميلاد المرفأ البوني (رسقونيا)، فيما أنشأ بها الرومان مخيما للاصطياف بعد أن حوّلوها إلى مستعمرة، بينما شيد بها البيزنطيون كنيسة مسيحية، وحرص الأتراك على تشييد أبراج لتحصين تامنفوست والجزائر من الغزاة ، من بينها الحصن الذي شيّده إسماعيل باشا سنة 1624. ولجأ إليها الإسبان (المورس) بعد سقوط غرناطة، وقد وصف الإدريسي، وهو عالم وأحد أمراء المسلمين تامنفوست بأنها “ميناء جميل بالقرب من مدينة أثرية صغيرة والجزء الأكبر منها هدم، لم يبق منها إلا بنيان قديم، تتمثل في أضرحة ومعالم من حجارة عدد سكانها قليل”. وعاشت منطقة تامنفوست في انسجام تام مع جزائر بني مزغنة في عهد النوميديين ممن عملوا على نشر الإسلام في إفريقيا. وأطلقت الإدارة الاستعمارية اسم (لابيروز) على تامنفوست سنة 1897 عندما أنشأت قرية (بيروز)، وكانت مخصصة فقط لعائلة الصيادين الأوروبيين، قبل أن تتحول إلى محطة استجمام واصطياف، ذلك بعد أن استوت فوقها مطاعم وفنادق وحانات كان يقيم بها نحو 231 عائلة أوروبية و271 عائلة جزائرية. نادي الصنوبر بدل تامنفوست هذا الإرث التاريخي الذي تحوز عليه “تامنفوست” يدعو لطرح أكثر من تساؤل، عن خلفية عدم التفات رموز صناع القرار في الجزائر إلى هذه المنطقة بتحويلها إلى منتجع، وتفضيل منطقة نادي الصنوبر وموريتي بغرب العاصمة عنها، خاصة إذا علمنا أن عددا من قادة الجيش ورموز الحكم كانت تستهويهم تامنفوست خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أم أن مقتل قاصدي مرباح مطلع تسعينيات القرن الماضي، تاريخ بداية دخول الجزائر إلى النفق المظلم، كان بمثابة لإنذار تحذيري لهم، واقتنعوا أن منطقة تامنفوست وجهة غير آمنة وبالتالي غير مفضلة، على الرغم من أن واحدة من الثكنات العسكرية بالمنطقة تضم واحدة من أشهر الأكاديميات في الجزائر. ويقول بعض من عرفوا تامنفوست في ثمانينيات القرن الماضي، إن هذا المنتجع لم يكن سهلا على أي كان التردد عليه خلال تلك الفترة، فهذا المكان احتل مكانة امتيازية في مخيّلة الطبقة الراقية في الجزائر من قادة الجيش ورموز سياسية وأصحاب المال والجاه. ويقال إن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد عشق المكان وكان يتردد عليه بانتظام لممارسة رياضة الغطس والصيد، فيما تشير روايات أخرى إلى أن القايد أحمد كانت وجهته المفضلة هي منتجع تامنفوست، وقيل إنه كان يمارس رياضة سباق الخيل، ناهيك عن وجوه أخرى عسكرية وسياسية كان يستهويها المرح والزهو والمجون في تامنفوست تبعا لنوعية المأكولات التي كانت تقدم والسهرات التي كانت تنظم. عندما زرنا منتجع تامنفوست الواقع على بعد نحو 20 كيلومتر إلى شرق خليج العاصمة، التابعة لبرج البحري، عرفنا أن السبق التاريخي للمنطقة لم يشفع لها بأن تتحول إلى واحدة من الوجهات السياحية القادرة على إغراء زوارها، ذلك برغم معانقة المكان للبحر، فمن ميناء الصيد بتامنفوست يمكنك رؤية العاصمة وهي مستلقية على ضفاف البحر. عندما زرنا تامنفوست عرفنا أنه لا شيء تغيّر مند أزيد من 20 سنة، فما عدا بعض المطاعم الواقعة على ضفة البحر المختصة في إعداد أطباق السمك وأخرى في تقديم المثلجات وحانة، لا توجد مرافق أخرى كفنادق وشاليات وبانغالوهات أو فضاءات للعب الأطفال ولا باقي المستلزمات للتمتع بالألعاب البحرية.. أي أن المنطقة لم يسجل بها أي استثمار سياحي منذ وقت طويل، وفقد المكان جاذبيته رغم أن المكان مفتوح على البحر ومؤهل لاحتضان عديد المرافق والفضاءات التي توفّر الراحة والطمأنينة والمتعة واللعب والترف، بل وحتى المعالم التاريخية الموجودة كالحصن التركي الذي هو متحف تاريخي مبني بحجارة الآثار الرومانية والكنيسة المتواجدة بالقرب من المدخل الرئيسي للحي العسكري، لم تستغل ولم تفتح في وجه الزوار، بدليل أننا منعنا حتى من التقاط صورة لهذا الحصن من الخارج، وفرضت علينا القائمة على تسييره إجراءات بيروقراطية، وهو ما يعني أننا بعيدون جدا عن الثقافة السياحية بل وحتى الخطاب المسوق عن السياحة في بلادنا، يبدو أنه غير واعي بواقع المنطق السائد، على عكس البلدان التي راحت تتنافس فيما بينها لتسويق ما لديها من منتوجات سياحية مادية وغير مادية، بينها ألمانيا التي لا تمانع في الصعود حتى إلى سطح برلمانها لأخذ صور تذكارية. ويشير بعض الشباب ممن ينتمون لحي (الآثار)، أن تسارع الأحداث خلال ال20 سنة الماضية، زاد في تهميش تلك الناحية، بل وأصبحت بعيدة عن الأضواء واهتمامات الناس بعد أن تحولت منطقة “كلوب دي بان” و”موريتي” إلى محمية توفر الأمن والطمأنينة والراحة لرموز السلطة، كما توفر للباحثين عن الملذات، اللهو والمجون في سهراتها، بل وأصبحت الضاحية الغربية للعاصمة مغرية لزوارها مع الوقت بعد أن تحولت “لامادراك” أيضا بعين البنيان إلى وجهة مفضلة لكثير من العائلات، ليدخل منتجع “تامنفوست” التاريخي في عداد المناطق المنسية، لا سيما أن هذا المنتجع يقع خلف الطريق السيار الذي ساهم هو أيضا في تعميق عزلته رفقة الإقليم الذي يقع فيه، وهو برج البحري. إهمال..واعتداءات.. في عز موسم الاصطياف، منتصف شهر جويلية، تتلاحق العائلات وفئات شبانية من مختلف الأعمار تباعا إلى شاطئي “لابيروز1” و”لابيروز2”، يحملق حارس حظيرة السيارات في وجه كل صاحب عربة ويوزع على كل واحد تذكرة 50 دينارا، فيما يلتفت زميله يمينا إلى امرأة في سن الخمسين، ليعلمها أن راحتها تكمن في كراء مظلة وطاولة و4 كراسي على الشاطئ بسعر 500 دينار، وهو سعر اعتمدته مصالح ولاية الجزائر خلال موسم الاصطياف. يتواصل توافد الحشود على الشاطئين بحلول الساعة الواحدة زوالا، آنذاك كان ميناء الصيد قد استوت فوقه عشرات القوارب، ولكن الصيادون لا أحد فيهم تجرّأ على ذكر مشكل واحد، بل يقول أحدهم (ليست لدينا مشاكل طالما أن سيد علي فروخي وزير الصيد السابق يقيم بالقرب من الميناء)، وعلى مرمى حجر منهم، بدا بعض أصحاب المطاعم، كما لو أنهم يستعطفون الزوار للتردد على مطاعمهم ومتاجرهم، حتى أن أحدهم لم يستسغ هذا العام قلة إقبال الناس على تناول الأسماك والمثلجات. في ميناء تامنفوست تتقاطع آراء الناس في قناعة واحدة، هي أن المكان يستقطب خلال موسم الاصطياف كثير من الزوار، بينهم فرنسيين وألمانيين وإيطاليين وغيرهم ممن أعربوا عن إعجابهم بالموقع، ولو أن بعض أبناء (تامنفوست) ما عادوا راضين عن الوضع القائم، ويقول رضا “بإمكانكم أن تتجولوا في أنحاء هذا المنتجع لتقفوا على الإهمال واللامبالاة.. البلدية لم يعد يهمها أي شيء..”، الدليل على ذلك، يضيف زميله كمال “المكان غير آمن ليلا، هناك اعتداءات سجلت ضد أشخاص، بل هناك من يبيع ويشتري المخدرات ليل نهار”. وتكتمل هذه الأقوال مع تلك التي يشير أصحابها إلى أن شاطئ “لابيروز1” غير آمن، عكس شاطئ” لابيروز2” الذي تفضّله أغلب العائلات الواقع بالقرب من المدرسة العسكرية، والدليل على ذلك، أنه طيلة الساعات التي قضيناها في تامنفوست ظل المكان المخصص لعناصر الأمن خاليا على عروشه. ومع ذلك، فإن تامنفوست هي وجهة مفضلة لكثير من الناس المترددين على الحانة الواقعة قبالة البحر والشباب العاشق للرياضة البحرية، فبالقرب من ميناء الصيد، يوجد “نادي القوارب” لتعليم الشباب رياضة الألواح الشراعية مجانا على مدى فصول السنة. وتشير الأصداء المنعكسة من محيط مؤسسة تسيير موانئ وملاجئ الصيد البحري، أن تامنفوست ستحظى برصيف عائم لرسو بواخر النقل الحضري من حجم 200 مسافر، ولعل ما يؤكد ذلك الأشغال الجارية التي وقفنا عليها في الميناء، والتي قاربت 50 بالمائة، ولو أن القائمين على تسيير المشروع رفضوا تقديم أي معلومة لنا، عدا تلك التي تضمنتها لوحة وضعت عند المدخل الرئيسي للورشة، جاء فيها “مشروع إنجاز بنية تحتية لرصيف عائم للنقل الحضري البحري بميناء تامنفوست” ومؤسسة الإنجاز هي “مديطرانيان” للأشغال البحرية”، ويرتقب أن تكون هذه المحطة الرئيسية، شبيهة بتلك التي يحوز عليها ميناء شرشال.