غادر أكثر من ألف طبيب مختص الجزائر في أقل من سنة في اتجاه فرنسا، التي فتحت لهم أبواب "إفراغ" المستشفيات الجزائرية، بفضل القانون الذي صدر في الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية في نوفمبر 2017، والذي خفّف إجراءات ممارسة الأجانب الطب في هذه الدولة التي تعاني مستشفياتها العمومية من عجز في الأطباء قدّر سنة 2016 بأكثر من 40 في المائة. وبالرغم من النداءات المتكررة التي وجّهتها عمادة الأطباء الجزائريين لتوقيف النزيف، فإن "الدولة" الجزائرية واجهت السنة الماضية الأطباء المقيمين بالهراوات في الشوارع، عندما خرجوا للمطالبة بمراجعة السياسة التي تنتهجها الدولة والتي لم تنتج إلا رغبة متزايدة لدى الأطباء في مغادرة البلاد. ولم تتخذ أية إجراءات عملية لتوقيف هروب "النخبة الطبية" بالاستجابة إلى مطالبها المهنية والاجتماعية. ففي السنة الأولى لتوليه رئاسة الجمهورية الفرنسية، شرع الرئيس إيمانويل ماكرون في معالجة مشكل "ندرة الأطباء الأخصائيين" الذي تعاني منه المستشفيات العمومية الفرنسية في كثير من التخصصات. وأصدر في نوفمبر 2017 تعديلا لقانون الصحة الفرنسي، الذي كان يمنع على أي طبيب غير مسجل في جدول عمادة الأطباء الفرنسيين من ممارسة المهنة. وتضمّن هذا التعديل السماح للأطباء "الفرانكوفونيين" ممارسة المهنة في فرنسا دون اجتياز اختبار المعادلة. كما عدّلت عمادة الأطباء أيضا قانونها بإدراج "رقم تسجيل مؤقت في الجدول" لمدة سنتين للأطباء القادمين من الدول الفرانكوفونية. ويقول الدكتور محمد بشير بقادة، رئيس المجلس الجهوي لوهران لعمادة الأطباء الجزائريين "إن تلك التعديلات استحدثت خصيصا لإغراء الأطباء الجزائريين، لأننا البلد الوحيد في المنظومة التي تتحدث اللغة الفرنسية الذي يملك العدد والكفاءات في مجال الطب الذين يتقنون الفرنسية أحسن من البلدان الأخرى ومنها تونس والمغرب والسنغال". ويضيف "إننا نعيش نزيفا حقيقيا وخطيرا على مستقبل الطب في بلادنا، لأن ما تقوم به فرنسا أفرغ مستشفياتنا من خيرة أطبائها الذين قرروا الهجرة ليضعوا كل ما اكتسبوه من خبرة في خدمة الفرنسيين. مع الاعتراف أنهم يلقون العناية التي لا يلقونها في بلادنا، من حيث الاعتبار وظروف العمل والرواتب والامتيازات المختلفة". وإذا استمر الوضع، فإن الجزائر ستهدي فرنسا في ظرف سنتين أكثر من 5 آلاف طبيب أخصائي في مختلف الميادين التي تعاني فيها من عجز. ولا تملك عمادة الأطباء الجزائريين إحصائيات مضبوطة عن عدد الأطباء الذين هاجروا إلى فرنسا منذ صدور تعديلات ماكرون، إلا أن عدد الطلبات المودعة لدى العمادات الجهوية تشير إلى تزايد العدد يوما بعد آخر لاستخراج شهادات حسن السيرة والممارسة، أي التسجيل في جدول العمادة. ويجمع الأطباء الذين يستعدون للرحيل على القول "إن ما يدفعنا إلى الهجرة هو الإهانة التي نتعرض لها منذ أن قال وزير الصحة السابق للأطباء "حلّلوا دراهمكم" واتهمنا بكل البلاوي التي أصابت القطاع وحرّض المجتمع علينا وصوّرنا كأننا مجرمين، ما عليه اليوم هو والذي خلفه وبسببه تعرض الأطباء إلى إراقة دمائهم، أن يبحثوا عن أطباء يقبلون العمل في ظروف مهينة". ويتداول الأطباء فيما بينهم أخبار زملائهم الذين غادروا البلاد إلى المستشفيات الفرنسية، فقد فقدت وهران أحد أكبر أطبائها المختصين في التخدير والإنعاش والذي صار "معبودا" في المستشفى الفرنسي الذي يشتغل فيه منذ أقل من سنة براتب شهري قدره 17 ألف أورو. وقد بدأت آثار تعديلات قانون الصحة الفرنسي تظهر في الجزائر. ففي ولاية معسكر مثلا يشتغل في مصلحة الأمومة والتوليد طبيبة مختصة واحدة في هذا الميدان، تجري يوميا قرابة 50 عملية توليد منها القيصرية ولا تملك فريقا طبيا متكاملا، حيث تعمل بمساعدة ممرضة واحدة فقط. أما في وهران فلا يملك أكثر مستشفى فيها وهو مستشفى أول نوفمبر طبيبا مختصا في الأشعة، حيث تملك هذه المؤسسة جهاز سكانير لكن لا يوجد من يشغّله. ويضطر مستشفى شي غيفارا في مستغانم إلى توجيه مرضاه المصابين بأزمات قلبية إلى مستشفى وهران، لأنه لا يتوفر على طبيب مختص في هذا الميدان. والأمثلة كثيرة. فقد انتقل "التصحر" الطبي من الجنوب الكبير إلى الشمال. ويتوقّع المطّلعون على الأوضاع، أنه لن يبقى في المستشفيات الجزائرية أطباء في اختصاصات العيون، التخدير والإنعاش، التوليد، جراحة الأعصاب وجراحة العظام على وجه الخصوص، لأنها التخصصات الأكثر طلبا في فرنسا. وهذا في ظل دفع أحسن الكفاءات إلى مغادرة مناصب عملهم والركون إلى التقاعد بسبب القرارات التي اتخذها الوزير السابق عبد المالك بوضياف. ويحتمل أيضا أن تواجه المعاهد الطبية الجزائرية في السنوات اللاحقة مشاكل في التأطير بسبب مغادرة عدد معتبر من الأطباء الاستشفائيين الجامعيين. ويملك الأطباء الجزائريون الراغبون في الهجرة، الأفضلية بالمقارنة مع نظرائهم المغاربة والتونسيين وغيرهم، كونهم يتحكمون في اللغة الفرنسية، ويقدرون على التواصل مع ال7 ملايين فرنسي من أصول مغاربية بلغاتهم الأصلية. ولا تقتصر هذه الهجرة على وجهة فرنسا وحدها، حيث تستقطب دول الخليج العربي هي الأخرى الأطباء الأخصائيين الجزائريين وتمنحهم مزايا مادية أكبر من تلك التي تمنحها فرنسا، بالإضافة إلى القبول دون الخضوع لاختبارات المعادلة. وقد انتشرت في وهران ظاهرة جديدة، وهي تسجيل طلبة العلوم الطبية في الدروس الخصوصية للغة الألمانية منذ السنوات الأولى للدراسة، على أمل الهجرة إلى هذا البلد الذي يحتاج هو الآخر إلى أطباء ولا يشترط اختبارات المعادلة. وهكذا "تهدي" الجزائر أحسن كفاءاتها للدول الأجنبية وتقابلهم بالإهانات والهراوات في أرض آبائهم وأجدادهم. ولن يبقى للمرضى غير العشابين والمشعوذين والطلاسم التي يعرضها النازحون الأفارقة على الأرصفة للتداوي.