الواقع السوري اليوم تشوبه الكثير من المعادلات صعبة الحل، منعرجات خطيرة تعثر عندها جميع الحلول، والسينما السورية واحدة من ضحايا الحرب، هي اليوم محاصرة في طريقها إلى المهرجانات العالمية، كما يقول النجم السوري أيمن زيدان في هذا الحوار مع"الخبر"، يحدثنا بلسان المواطن الذي رفض أن يغادر وطنه رغم كل التحديات، ويتوقف عند تفاصيل شخصية يجسدها في الفيلم السوري الجديد "مسافرو الحرب" للمخرج جود سعيد، محاولا بالحب والابتسامة رسم طريق نحو المستقبل السوري وتجاوز أوجاع حرب لا تزال تدور رحاها منذ ثماني سنوات. حاوره: محمد علال عنوان الفيلم السوري "مسافرو الحرب"، يوحي أننا سنشاهد المعارك والدماء والاقتتال، لكننا نتوقف عند مشاهد لماذا هذا الاختيار؟ للحرب مفاهيم متعددة، شخصيا لديّ مفهوم مختلف لها، لا يمكن اقتصار النظرة على طلقة رصاصة أو جندي جريح، إنها نظرة قاصرة للحرب وغير شمولية على الإطلاق، هناك شيء اسمه ارتدادات الحرب التي تحاصر الأرواح، الحرب أحيانا هي عطب بالنسيج الاجتماعي والأخلاقي، الحرب أيضا قد تعني ذلك العطب في المنظومة الفكرية أو في القيم الأخلاقية، الحديث هنا على مستوى الارتداد الاجتماعي في فيلم "مسافرو الحرب" كان لدينا رغبة للحديث عن الارتدادات الروحية، ارتدادت الحرب على أحلامنا، على أوجاعنا. كنت أشعر بمسؤولية كبيرة في الفيلم، كنت معني بأن أحمل كل هؤلاء المسافرين معي إلى فضاء، أحملهم من خلال أدائي بمشاعري، حاولت الوصول إلى المكان الآخر، المخرج جود سعيد، طبعا هو القائد الرئيسي للمشروع، ولكن كانت لديّ مسؤوليات أخرى أن أحمل كل مشاعر هؤلاء إلى الفضاء الذي نستطيع أن نعبّر فيه عن الحلم المهزوم، لذلك فالشخصية التي جسّدتها، هي المانحة للحب والمانحة للأمل رغم أنها محبطة، حتى في الأداء تمثيليا تعتبر شخصية معقدة. أنت شريك مع المخرج كسيناريست وكاتب حوار، إلى أي حد كان جود سعيد أمينا في نقل ما كتبته؟ أنا شريك في السيناريو وعملت بالفيلم ليس كممثل وإنما كشريك في المشروع، كنت منتمي للفيلم بكليته، يمكن جزء من نقل الحقيقة، نحن انطلقنا من خلال مشروع مشترك، كتبنا معا، تحاورنا معا، حتى أن كل ما أنجز هي عملية توأمة لدرجة كل أجزاء الفيلم تتحول إلى مخلوق واحد، لم أعرف إذا كانت هذه اليد أو العين تخصه أو تخصني، في هذا المشروع الذي أنجبناه من خلال هذه التجربة، أصبحنا شركاء بكل تفاصيله، لو سألتني: "أي جملة أنا كتبتها أو أي جملة هو كتبها لن أستطيع أن أحدد"، لو كان هناك إحساس من هذا النوع لكنا وقعنا في مشكلة، بالعكس أضفنا نسيجا متماهيا مع بعضنا البعض، الفيلم لحظات نادرة نصل فيها إلى منطقة واحدة لعمل اشتغل فيه ثلاثة من الأشخاص على السيناريو، كيف يتحول هذا المنجز إلى كائن واحد على مستوى الجسد والإحساس هذا ما حرصنا عليه. تجسّد شخصية مواطن أنهى خدماته وأحيل على التقاعد، المواطن السوري بسيط هل هو الوحيد الذي يستطيع اختزال الواقع السوري؟ البطل هو رجل متقاعد، عمل ثلاثين عاما وأنهى خدماته وقرر أن يعود إلى البيت العائلي، نكتشف في الفيلم إلى أن كل هذا الحصار يمنعه من العودة إلى المكان الذي كان يشتهيه، الرجل لم يستطع أن يرحل واقعيا، وقرر أن يحلم معه الناس برحلة مشتهاة. ورغم إحباطه وانكساره استطاع أن يكون مانحا للآخر، نحن جيل انهزمت أجزاء كثيرة من أحلامنا، وصلنا إلى عالم ما كنا نشتهيه يوما ما، وما كنا نظن أننا كنا سنصل إليه يوما، كانت لدينا نظرة عن غد أحلى وأجمل، ولكن أصبح هناك خيبات وخيبات مريرة، انهارت فيه أجزاء كثيرة من منظومة أفكارنا وأحلامنا على بساط الأرض، هناك تبدل كبير في خارطتنا العربية اليوم. هذه الخيبات والانكسارات، إذا أردنا معالجتها لا حل إذن سوى بالحب والكوميديا السوداء؟ بعد كل تلك السنوات، أنت تشتهي أن تزيح الحرب، الصرخة المشتهاة اليوم هو أن تنتهي الحرب بأي ثمن، نعتقد أنها انتهت، لكننا نكتشف لاحقا أن هذه الحرب لم تنته، ولكننا نشتهي أن تنتهي. الحرب عموما على بساط الواقع في سوريا عسكريا دخلت مراحلها الأخيرة، هي في النزعة الأخيرة تقريبا حسمت، لكن لم ستحسم ارتداداتها والندوب الغائرة التي تركتها في أرواحنا وعلاقتنا في النسيج الاجتماعي المجروح، الأمر يتعلق بروح "أم ثكلى" أو "أرمل" أو"يتيم" أو "أخت فقدت أخاها" أو "عائلة فقدت بيتها"، كيف يمكن أن نحاور هذا العراء، كيف نستنبط من هذا العراء ومن هذا الخراب الحياة، بين ثناياه ما زالت هناك إمكانية لكي ننهض، ما زال هناك إمكانية كي نزرع فيه حياة جديدة، فيلم "مسافرو الحرب" بالنسبة لي يحاول ذلك. أن نعمل معا، أن نصنع الغد معا، بالنسبة لحالة الكوميديا السوداء هي حلول فنية، ولكن ليس حل دائم، مثلا في فيلم "أمنة" الذي أخرجته لم أجد فسحة لهذه السخرية السوداء، هناك صيغ من التناول، هي خيار فني، نقطتين أحيانا، حرب على ظلال شعب تترك حالة من التندر والسخرية، يعني أحيانا تسخر من المأساة، في رأيي السخرية هي من أعلى أصوات الاحتجاج والأكثر إيلاما. أين تم التصوير وكيف تعاملت مع الحقائق؟ لقد صورناه في مدينة مهدمة فعلا، حاولنا أن نبث فيه الحياة، ليس وهم الحياة، وإنما حياة حقيقية قدمناها في الفيلم، نحن نقول إن البيوت لا تنسى سكانها، فالبيوت ليست جدران، هي ذكريات وحكايات وأحلام و قصص وأرواح هؤلاء الناس الذين كانوا هناك يوما، أرواحهم ستضل تحوم وستضل تحمّلنا مسؤولية أن نزع على الأقل شتلات قليلة للحياة، يمكن للحب أن يقوم بذلك، نحن لا نملك أكثر من ذلك، كفنانين نملك الحلم والرغبة في بث الأمل في الروح، نملك أن نكون شركاء في صناعة غد مشرق عبر مشروع ما، لأننا نتحرك وجدانيا في هذا الفضاء، نريد أن نقول إن هذه الحرب لم تهزمنا، هناك إمكانية كي نكون كالعنقاء أن ينتفض أحدنا وننهض من الرماد. المفارقة في هذا الحلم أن بطل الفيلم هو شخص لديه خيبة ومرارة وجع يواجه صعوبة في الحلم، وكم هو مؤلم أن يولد الحب بين ثنايا تلك الخيبات. بلا شك الأمر موجع جد عندما تقف على حطام الحرب في البيوت المهدّمة والمهجورة؟ المرحلة القادمة يمكن أن تظهر على سطح الطاولة تفاصيل وحقائق وسيناريوهات أدت إلى اندلاع الحرب. ما يهم هو المكان الذي كان جزء هاما خلال التصوير، عندما دخلنا بدأت هذه الجدران تملي علينا حوارات أخرى، عندما نكون في موقع التصوير تجد نفسك في لحظة ضعف أمام أغراض العائلة التي تركت المكان وغادرته بسبب الحرب، قد تجد دمية وتجد كتابا وتجد آلات تركها أهلها وغادروا إلى مكان نجهله، أو ربما غادروا إلى العالم الآخر، فجأة أصبح المكان بتفاصيله يرمي علينا سيناريو آخر، يقودنا إلى أفكار جديدة، في فيلم "مسافرو الحرب" المكان كان شريكا، لم نعتمد تقنية اتباع السيناريو الأول كما كتب في جلسات ما قبل التصوير، كنا نكتب اللحظة أحيانا أو نطور المشاهد حسب المكان، عندما تدخل للتصوير في مكان لا تعرفه، يصبح صديقا لك وتنشئ علاقة بينك وبينه، ويكتب حوارا آخر بين تلك الأشياء و الثقوب التي تركتها القذائف والنوافذ المحطمة. في سوريا الجدران مجروحة والقلوب أيضا، كيف لهذا الفيلم أن يطبب جراح حرب عمرها عشر سنوات؟ عندما تحاول أن تساهم في إزالة القيح من الجراح، لا يكفي فيلم ولا عشرات الأفلام، أنت تحاول فقط إزاحة الصديد والعفن من هذا الجرح القاسي، الحرب السورية هي أعنف حرب في العصر الحديث، حرب فيها مفردات مرعبة، فيها سوريون دمّروا سوريا، فيها من هم غير سوريين أيضا دمروا سوريا، قسم كبير منا كان شريكا في اختراق الرصاصة الجلد، الآن هناك قيح وسط هذا الجرح العميق، ربما لن ننجح الآن في تطبيب الجرح، ولكن يمكن طرح شيء بسيط من الأمل يخفّف الوجع. المصالحة" هي أحد الحلول المطروحة اليوم للحرب السورية لوضع حد للعنف بأي شكل من الأشكال، الفيلم فيما يبدو هو ورقة تنحاز لذلك الطرح؟ لم نضع رسالة في الفيلم كي يكون صادقا، ولم نكن نريد أن نختصر العمل في الأهداف، كنا نريد أن نعكس وجعا ونفسّر حلما، والإمكانية قائمة بأن نعيد إعمار أرواحنا، أما الحجر والأبنية أعمارها عمليا ليست معقدة، هي قضية اقتصادية بحتة، إعادة إعمار الروح السورية وإعادة إعمار النسيج الاجتماعي السوري وإعادة إعمار الحلم بأننا سنصل أو نتجاوز هذا النفق الذي دخلنا فيه لمدة ثماني سنوات، بعد العتمة والظلمة الشديدة نحن المسكونين بالشأن والثقافة والسينما، لابد أن نوسّع معا دائرة الضوء والأمل، لا ذلك الإفراط في الأمل المفرط أو الوهم، يعني فقط رغبة كيف يمكن لكل هذه المسقطات الضوئية أن تتسع للنور كي نرى المستقبل. قد يعتقد البعض أن الفيلم ولد ميتا، لا مستقبل له في السينما العالمية والمهرجانات العربية، لأنه منتج من طرف النظام السوري، وقد يعتقد البعض الآخر، أن هذا الفيلم سيكون شهادة هامة في المستقبل، يحزنك تعرّض السينما السورية للحصار؟ أقولها بصراحة ليس فقط هذا الفيلم، وإنما السينما السورية، منذ بداية الحرب السورية كان أملنا في السينمائيين والثقافة في سوريا، منذ البداية كنا نأمل أن لا يخرّب الاصطفاف السياسي، المشروع الثقافي، حقيقة هذا شيء يعني الإنسان، ولكن أقولها صراحة أكثر، الآن لم يعد عندي ثقة في المثقف العربي، حتى المتنوّر العربي. هكذا اصطفاف منذ أن قدمت الحرب السورية نماذج من تحالفات بين علمانيات ويساريين وإخوان وغيرهم، أصبح هناك خيبة وصدمة بالمثقف العلماني العربي، بالنسبة للأجانب هم ضحايا ماكينة إعلامية اشتغلت على الحرب السورية منذ البداية، يحتاجون بعض الوقت، ولكن بالنتيجة النهائية نقول الشريط السينمائي قيمته ليست آنية، ولكن الشريط السينمائي قيمته في القادم الزمني، هو الذي سيدوم، هناك أفلام لحظية أنجزت ونجحت في البداية وأثارت الجدل ولفتت الانتباه، ولكن التاريخ لم يحتفظ بها. كم عدد الأفلام التي أنتجتها سوريا في الحرب وكيف تستطيع أن تقف وسط كل تلك الانقسامات؟ عدد الأفلام التي أنجزت عن الحرب العالمية وحرب فيتنام، لا تحصى، ولكن احتفظ التاريخ في الأخير بعدد منها فقط، ولكن دعني أقول فعلا نحن مدركين بالحصار والتضييق ولكن نراهن على المستقبل، مهما تعرّضنا لحصار في يوم من الأيام، فقد وثقنا لحظة وجدانية للحرب السورية بذاكرة السينما، هي لحظة صادقة، نؤمن فيها، أما كيف يرى الآخر الأمر فتلك مشكلته، أعتقد أنه حان الوقت للخروج من هذا الاصطفاف السياسي المحموم، لأنك عندما تقاطع فيلما وترحّب بوجهة نظر الآخر، فأنت تسهم بشكل أو بآخر برغبة دفينة باستمرار الحرب، عندما تصطف سياسيا ضد النظام، هذا حقك الطبيعي، لكن يجب على المثقف أن يكون على مسافة واحدة من كل أطراف الصراع سينمائيا، كل واحد منا يقدم وجهة نظره، فلنتعلم من الآخرين. عندما تعرّض ستالين للحصار في معركة ستالينغراد، خاطب الجنود الروس وقال لهم "تعالوا ندافع عن وطن الشاعر الروسي العظيم ومؤسس لغة الأدب الروسي الحديث ألكسندر بوشكين، رغم أن بوشكين واحد من رموز الأدب الروسي في العهد القيصري هكذا الناس تفهم، المنجز الثقافي والإبداعي والسينمائي يجب أن يخرج من اصطفافه السياسي وحاكمه كمنجز ثقافي، لا يجب أن تغلق على جبهة وتفتح الأبواب للجبهة الأخرى مساحات له فقط لأنها معارضة فقط تحتفي بها وبهذا الشكل أنت شريك في الحرب ولا تخدم الفن في النهاية، لأن الأمر يتعلق بمسؤولية تاريخية عندما تمارس المهرجانات العربية وغيرها هذا العسر فهذا أمر بشع.