أحد عشر أسبوعا منذ انطلاق الحراك والوضع لم يزد الاستقرار متانة ولم يحدد آفاقا واضحة، بالرغم من ضخامة الحراك ووحدته وسلميته طيلة كل هذه الجمعات. لهذا نلاحظ أن الشعب والجيش ما زالا وحيدين. وعليهما أن لا يديرا ظهريهما لبعضهما ولا أن يتجابها. فالجيش لا يمكنه أن يقف ضد طموحات الشعب. لا يريد الشعب اليوم أن يحكم كما في السابق بواجهات سياسية مفبركة. واجهات طابعها نقص الذمة وقلة الحياء وغياب روح المسؤولية والواعز الأخلاقي. الحراك ألغى كل هذه الواجهات وهذه التصرفات غير الشرعية. إن الحراك حركة تاريخية وليدة أزمة الحكم هذه. ولا يزال الحراك، على امتداد أسابيع، مصرا بوضوح على رفض النظام والبعض من وجوهه. وهو بهذا الرفض يريد إنهاء أساليب التسلط وشبكات الولاء والإذعان التي تصرفت خارج القانون واغتصبت الحقوق ومارست الرشوة والتعسف. لهذه الأسباب يطالب الحراك اليوم بحقه في أن تدار أموره بوسائل قانونية من اختياره ويطالب بنشر مناخ من الحرية واحترام القانون والحق وإحلال الشرعية والديمقراطية في ربوع الوطن. لهذا لا يجب أن يتحول الحراك، الذي حرر الجميع من 1لوان الخوف والمزاعم والأحكام المسبقة، إلى عامل انسداد، بل ينبغي أن يكون مصدرا لإضفاء الشرعية والمشروعية وروح المسؤولية. سيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن استبدال الأشخاص لوحده سيكون جوابا شافيا وأن تعويضهم بآخرين جدد ذوو نزاهة وأكثر التزاما سيضمن تحقيق كل آمال الحراك. كما أن استبدال الأشخاص لن يشكل ضمانة قوية لتحقيق الحكم الجيد والعدل المنزه. وفي هذا السياق وضمن منظور قيام شرعية من المهم أن تتجه الأولوية إلى إعادة وضع المعيار الشرعي وإقامة الرقابة والمراقبة على كل الوظائف وعلى ممارسة أي مسؤولية. فلينصب كل جهد وكل اعتبار وكل ثقة، على استخلاف الرجال بدستور حقيقي ومؤسسات فعلية تمارس سلطات الترخيص والضبط والتأهيل والرقابة والتحكيم. هذه المؤسسات سيرثها غدا رجال ونساء منتخبون يسهرون على الدولة ويديرون المجتمع. هذا هو سبيل قيام الدولة الديمقراطية الحقيقية، دولة الحرية والحق، وهذا هو مكمن الحل ونمط الرقابة على كل سلطة بواسطة مؤسسات وليس بواسطة الأشخاص فقط. أما الوضع اليوم فهو يتسم بممارسة التسلط والرشوة وتجاوز القانون والتعسف من طرف شبكات حطمت كل أشكال السلطة القانونية والعقلانية وكل أشكال الإنصاف، كما شوهت العلاقة بين المواطن والإدارة وبين المواطنين والسلطات سواء كانت منتخبة أو معينة. إن حجم الأحزاب وهياكلها وتنظيمها لا تسمح لها بملء الشغور الرهيب القائم ومجابهة كل ألوان العجز في الإدارة وفي الرقابة والمحاسبة وتعويض كل ألوان النقص في مجال النقاش السياسي البناء وثقافة التوافق والانضباط السياسي الحزبي.. إنه لأمر مهين حقا. قد نصرخ وقد نصيح وقد نُقدم على التحطيم والحرق لكن ذلك لن يجدي نفعا في مواجهة هذه العيوب الخطيرة وفي سد هذه الفجوات الرهيبة وفي تجاوز عدم وجود قوى سياسية واجتماعية منظمة لمرافقة عملية صياغة الأدوات والميكانيزمات والمؤسسات اللازمة أو مرافقة تنظيم أي انتخابات أو تفعيل عدالة حقيقية. لحسن الحظ أن الحراك بحجمه الوطني وبوحدته وسلميته قد صحح البعض من هذه العيوب وأعاد اللحمة للروابط الاجتماعية الوطنية. غير أنه لم يمنح بعد الشرعية للحكم. ومن هنا سيكون خطيرا حقا دفع المؤسسات إلى هشاشة أعمق وإلى عدم شرعية أكبر في الحكم وفي الأدوات وفي الضبط والرقابة. ولهذا لا بد بادئ ذي بدء، إضافة لتوفر الأمن، من مزيد من الانضباط القانوني ومن الانخراط الاجتماعي الطوعي ومزيدا من الجهد من كل المواطنين ومزيدا من التضحية من جميع الأطراف. فمثل هذه الشروط ستسمح لا محالة بالحفاظ على استقرار الحراك وحيويته وسلميته، لاسيما خلال بدايات اللقاءات ومحاولات استقصاء الحلول ووضع أدوات وميكانيزمات قانونية تسمح ببروز شرعيات تدخل المؤسسات وتتولى المناصب الوطنية لقيادة المجتمع وإدارة مشاريعه وإنجاز تطلعاته. قد يبدو هذا مثبطا للحماس، إلا أنه ليس هنالك حل جاهز ولا مسعى واضح يمكن الأخذ به أو رفضه مقابل حراك سلمي موحد بهذا الحجم ومصر على تغيير عميق لنهج الحكم. ليس من مهام الحراك أن يهيكل المؤسسات ويحدد شكلها النهائي ولا تحديد كل التغييرات المطلوبة. لا يمكن أي كان أن يتوقع أو يدعي المعرفة أو أن يحدد لوحده بشكل مسبق السياقات والمسارات أو فرض شروط قبلية. ليس هنالك أي طرف ولا أي حزب أو مجموعة من الأحزاب قادر على فرض خريطة طريق بهذا الحجم لوحده. ليس هنالك أي طرف أو أي حزب قادر على مجابهة كل هذه الشروخ وكل هذا القصور. إنها نقائص هيكلية ونظامية بينة سببها نظام حكم ظل قائما على الترهيب والتحايل وتغييب الفعل السياسي وتفكيك الروابط الاجتماعية لما يقرب من ربع قرن. ولهذا من المحبذ أن يكون كل فعل وكل قرار وكل إجراء وكل سلوك وكل اقتراح محل معاينة وتقدير انطلاقا من المحافظة على حيوية الحراك الوحدوية وتجسيد غايته الرئيسية. بعد ذلك ينبغي أن يكون كل سعي ملم بكل هذه الشروخ والنقائص، لأن هنالك الكثير من المطبات تتربص بالحراك والجيش والنخب بما فيها تلك المتواجدة في السلطة. لا يجب أن يتوقف الحراك من دون الوصول إلى نتيجة أو ينتهي إلى انسدادات جديدة أو إلى انزلاقات نتيجة مزايدات تدفع به نحو مهالك يصعب تجنبها. تتطلب كل هذه المطبات مساهمة الكل في صياغة جماعية للحلول من دون نوايا مسبقة. عمليا لا أحد يدري قبليا أي مسار ستسلكه هذه العملية، ولا الصيغة التي ستنتهي إليها. كل احتمال هو مجرد فرصة يظل في حاجة للاختبار بمقارعته مع الوقائع العنيدة لاختلال سياسي خطير تعرفه البلاد والحكم. ما الذي يمكن أن يعنيه حل سياسي مفيد؟ وماذا تعنيه إمكانية حل دستوري؟ الدستور لا يتوفر على أي آلية ولا على أي أداة لفض المنازعات أو لحل الأزمات. تم في الماضي فض مثل هذه المنازعات ومثل هذه الأزمات خارج مجال الدستور الأمر الذي حرمه الحراك اليوم. ما مضمون مرحلة انتقالية تقودها شخصيات نزيهة وكفأة وغير متورطة؟ ستجابه كل هيئة انتقالية صعوبات جمة في التحكم فعلا في باقي السلطات القائمة كما ستعرف الكثير من العراقيل والخصومات. ما الفرق بين انتخابات رئاسية تنظم مع حكومة تصريف أعمال أو حكومة وحدة وطنية؟ لماذا الاعتقاد أن إحداهما ستكون أكثر نجاعة ومصداقية من الأخرى؟ ما هي الدواعي التي تجعل من عمل لجنة جديدة تشرف على الانتخابات أكثر مصداقية من سابقاتها؟ لن تفضي أي عملية انتخابية إلى ضمانات الصدق والوفاء ما دام الجهاز المكلف بكل عمليات التحضير والتسجيل ووضع القوائم الانتخابية الوطنية والمحلية وسجلات دوائر ومراكز ومكاتب التصويت، لم تتم مراجعتها وتصحيحها والمصادقة عليها من طرف سلطات مستقلة مختلفة ومتقاطعة. فكل هذه العمليات هي شروط حتمية للتحرر من نظام انتخابات حرم الفعل الانتخابي وتنكر لمفهوم النيابة السياسية وميّع كل روح مسؤولية. فكل وعد زائل وكل التزام مجرد كلام، من دون الحكم على صدق النوايا المعبر عنها. لقد سحب الحراك الشرعية الانتخابية والثقة السياسية من الكل. لهذا فإن أي انتخابات حقيقية لا ينبغي ربطها بأي تاريخ ولا تحديدها بأي آجال، فالانتخابات مرتبطة بإنجاز كل تلك الأعمال السالف ذكرها والمطلوب إنجازها. من دون ذلك ستكون أي انتخابات سلاح زعزعة شاملة للاستقرار بسبب الغموض والاعتراضات وعدم الاعتراف بالنتائج. هنالك فعلا فرصة لانطلاقة جدية وهناكللتباحث وهناك موضوع جاد للنقاش جاد للنقاش. هنالك مشاورات غير مقنعة لمخارج وهمية. لا ينبغي تضييع هذه الفرص التي وفرها الحراك ولا ينبغي التخلف عن مواعيد حقيقية حبلى بفرص حقيقية للبلاد. هذه الفرص وهذه الحظوظ تكمن في تغيير عادات وتصرفات مضللة جعلها النظام قواعد وسلوكات متكررةجعل منها النظام قواعد وآليات متكررة. ويبقى السؤال الملح: كيف يمكن أن نجعل من الحراك باعتباره قوة رفض وتصد، عامل استقرار وهيكلة وقوة رقابة؟ ثم كيف يمكن تفادي أن يصبح الحراك قوة تفجير أو أن يكون مطية لطموحات؟ تفادي ذلك ممكن عن طريق خطاب واضح جلي وعملي حول التحولات العميقة التي يجب القيام بها وتجسيدها، تحت العين الساهرة للحراك وتحت رقابة عدالة محررة من كل وصاية عدا وصاية القانون، ومتابعة الأحزاب ووسائل الإعلام والتنظيمات الاجتماعية المدنية الوطنية منها والمحلية. بهذا يكون الحراك في مأمن من أي تطرف وانشقاق عنيف ومن أي تنافر. إن المطالبة بتطبيق المادتين 7 و8 أمر حتمي وضروري، لكنه يبقى مرهونا بالحصول على اتفاق على الكيفية وعلى الصيغة وعلى مناهج العمل وعلى الشكل النهائي للمؤسسات الديمقراطية وعلى مشروع تمهيدي لدستور وعلى صيغة المصادقة عليه، إما عن طريق مجلس تأسيسي أو عن طريق استفتاء. تتضمن المادة السابعة من الدستور طريقين لكيفية ممارسة الشعب لسيادته ليكون مصدرا لكل سلطة. فالأولى هي طريق الاقتراع لانتخاب رئيس للجمهورية أو منتخبين آخرين، وطريق الاستفتاء لإنشاء المؤسسات (المادة 8). كل هذه المسائل لا يمكن معالجتها من طرف سلطة سيادية منزوعة الشرعية الانتخابية، كما لا يمكن معالجة كل هذه القضايا من طرف الأحزاب على اختلاف أطيافها نظرا لحالتها التنظيمية والنظامية. إن الأحكام الدستورية المتعلقة برئيس الدولة بالنيابة، وهي من بقايا دستور 1976، قد تمت المحافظة عليها بالرغم من التعديلات والتغييرات الكثيرة التي عرفها النص الدستوري، وذلك لسبب جوهري متصل بضمان استمرارية ما هو سيادي وضبطه. ينبغي تفادي الخلط بين وظيفة رئيس الجمهورية المنتخب ومهمة رئيس الدولة بالنيابة. فهذا الأخير يتولى تفعيل المهام السيادية ولا يمكنه ممارسة أي سلطة دستورية على المؤسسات السياسية السيادية. ومعلوم أن المؤسسات القائمة وكذا تركيبتها البشرية كانت موصومة بالفشل وبعدم الشرعية قبل حراك 22 فيفري. لا يمكن أي هيئة انتقالية وأي ندوة وطنية أن تتولى السلطة على المهام السيادية. فلرئيس الدولة بالنيابة وحده تجسيد السيادي والاستفادة من انضباط أعوان الدولة وانخراطهم الطوعي. وهو الذي يضمن التزامات الدولة تجاه الشركاء الأساسيين والقوى الأجنبية. إذ لا يمكن أن تعرف هذه المهام والالتزامات والعلاقات أي انقطاع. أما السلطات الحكومية الأخرى وصلاحياتها فهي تخضع لسيادة المواطنين وتحتاج إلى شرعية انتخابية لممارستها. لا يحق لأي كان أن يطعن في حق رئيس الدولة بالنيابة في تولي ممارسة المهمات السيادية. بالمقابل ليس له أي سلطة ولا أي شرعية لتفعيل المادتين السابعة والثامنة من الدستور. وبتعبير آخر تبقى صياغة أي جواب نهائي لتفعيل المادتين أو تنظيم أي انتخابات مرهونة بمشاركة الجميع ومساهمتهم التوافقية، لتظل المساعي والإجراءات مندرجة في سياق الحراك. تسمح مثل هذه المقاربة بتفادي أي طعن في المهام السيادية، كما تسمح بالاستفادة من التزامات ومساهمات قوية ومن الحصول على ما يضمن استقرارا نسيبا وعلى دوام الإرادة الجزائرية والتعبير عن نفسها. ليس هنالك من له مصلحة في توسيع ألوان الفراغ التي يعرفها بلدنا في مجال الأداء المجتمعي والسياسي وفي أداء السلطات العمومية أو إهمال أي فرصة سانحة مهما صغرت. فليبق التبصر والحيطة والوعي سادة الموقف دائما. ولتسد الواقعية الجميع من أجل تجاوز كل تلك النقائص والتصدي لكل تلك المخاطر وكل مصادر التهديد. فالديمقراطية أم الحلول التوافقية وبلدنا في 1مس الحاجة للتوافق حول حكم له ومن أجل التداول حول الاختيارات من أجل المضي قدما إلى الأمام. الجزائر 04 ماي 2019 * رئيس الحكومة سابقا (06 سبتمبر 1989/ 03 جوان 1991)