أخرج الشّيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن العبّاس رضي الله عنهما قال:«كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فلرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود بالخير من الرّيح المرسلة”. قال الإمام النووي عليه من الله الرّحمات:في الحديث فوائد: “منها الحثّ على الجود في كلّ وقت، ومنها الزّيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصّلاح، وفيه زيارة الصُّلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان”، فرمضان شهر الخيرات وموسم العطايا والمَبرّات، رمضان الشّهر الّذي تفتح فيه أبواب الجنّات وتغلق فيه أبواب الجحيم. تالله إنّه لحريّ بالمسلم أن يسارع ويسابق فيه بكلّ أنواع الطّاعات والتّنافس في اكتساب الحسنات ورفع الدرجات، ويتجلّى ذلك بالجود بالمال والطعام، ومعلوم أنّ للجود بالمال والطّعام في رمضان ميزةً خاصة، قال مولانا الشافعي رحمه الله تعالى:«أحبّ للرجل الزّيادةَ في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصّوم والصّلاة عن مكاسبهم”. الصّدقة في رمضان عمومًا وإطعام الطعام خصوصًا له طعم ومزية خاصة:«مَن فطّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنّه لا ينقص من أجر الصّائم شيئًا”، وقد كان السّلف الصّالح رضي الله عنهم يحرصون على إطعام الطعام في شهر رمضان، حتّى إنّ الواحد منهم لا يفطر وحده بل يدعو مَن يفطر معه من المساكين والمحتاجين وغيرهم، أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان عندما يصوم فلا يفطر إلّا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم، لم يتعشّ تلك اللّيلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السّائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقيَ في الجفنة، فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا. من فضائل الجود في رمضان أنّه فيه الجمع بين الصّيام والصّدقة، وذلك من موجبات الجنّة:«إنّ في الجنّة لغُرَفًا يُرَى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها”، فقام إليه أعرابي فقال: لمَن هي يا رسول الله؟ فقال:«هي لمَن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصّيام، وصلّى لله باللّيل والنّاس نيام”، وهذه المزايا وهذه الخصال كلّها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصّيام والقيام والصّدقة وطيب الكلام، وهذا من شأنه أن يجنّب الصّائم اللّغو والرّفث. لقد ضرب سيّد الخلق عليه الصّلاة والسّلام المثل العليا في الكرم والعطاء، يقول صفوان بن أمية رضي الله عنه: “والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني، وإنّه لأبغض النّاس إليّ، فما برح يعطيني حتّى إنّه لأحبّ النّاس إليّ”، يقول الإمام الزهري معلّقًا على ذلك: أعطاه يوم حنين مائة من النّعم، ثمّ مائة، ثمّ مائة، بل كان صلّى الله عليه وسلّم يقدّم النّاس على نفسه، يقول سهل بن سعد رضي الله عنه: إنّ امرأة جاءت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببُردة فقالت: نسجتها بيدي، فجئت لأكسوَكَها، فأخذها صلّى الله عليه وسلّم فأعطاها محتاجًا، فلمّا رآه القوم استهجنوا ذلك وقالوا: ما أحسنتَ صنعًا، لبسها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألتَه وعلمتَ أنّه لا يَرُد! فقال: إنّي والله ما سألتُه لألبسها، إنّما سألته لتكون كفني، وقد كانت كذلك. يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وكان جوده صلّى الله عليه وسلّم كلّه لله عزّ وجلّ وفي ابتغاء مرضاته، فإنّه كان يبذل المال إمّا لفقير أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألف به على الإسلام، وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيُعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشّهر والشّهران لا يوقد في بيته نارا، وربّما ربط على بطنه الحجر من الجوع. واعلم رعاك الله أنّ من معاني الصّيام العظيمة إحساسَ الأغنياء بحاجة إخوانهم الفقراء فيسدّوا حاجتهم، ويجودوا عليهم، سئل أحد السّلف: لم شرع الصّيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع، ورويَ أنّ أحد الصّالحين اشتهى طعامًا وكان صائمًا، فلمّا وضع بين يديه عند فطوره سَمِع سائلًا يقول: مَن يقرض المليَّ الوفيَّ الغنيّ؟ فقال: عبدُه المعدمُ من الحسنات، ثمّ قام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاويًا. إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي – براقي