تبدو الكاتبة سارة النمس في روايتها الثانية الصادرة عن دار "الآداب" في بيروت بعنوان "جيم"، كروائية متحكمة في الكتابة السردية، فبعد رواية "الحب بنكهة جزائرية" و"ماء وملح"، ومجموعتين قصصيتين هما "الدخلاء" و"إبليس يطلب المغفرة"، أبانت عن قدرة كبيرة في رسم شخصيات تعاني من توترات نفسية، تعيش اضطرابات تضعها في أوضاع مأساوية ترسمها سارة النمس بأسلوب فني في غاية الإتقان، وبلغة رشيقة. تتحدث سارة النمس في هذا الحوار مع "الخبر" عن روايتها الأخيرة "جيم" التي تدور أحداثها حول شخصيتين روائيتين (فتاة تدعى "جيم" ورجل في ريعان الشباب اسمه آمين) يلتقيان صدفة فيدركان أنّ بهما رغبة مماثلة لتجاوز مأساة شخصية وقعا فيها جراء ظروف اجتماعية قاسية، تتراوح بين ظروف العشرية السوداء ووضع اجتماعي مزري، فقدمت الكاتبة في رواية واحدة مأساة من ثلاثة أسفار، إذا أضفنا لحكاية "جيم وآمين" حكاية والد "جيم" التي نتعرف عليها عبر ما تركه من رسائل ويوميات تقرأها ابنته (جيم) عن طريق التلصص.
تلعب الذكريات في روايتك الأخيرة "جيم" وهي الرابعة في مسارك الروائي، دورا مهما بل أساسيا، هل مهمة الرواية في النهاية هي تأجيج ذاكرة الحياة والعودة إلى ما هو نائم لإيقاظه على شكل "اعترافات خطيرة"؟ لعبت الذاكرة دورًا أساسيًا في روايةِ "جيم" كما أشرت عكس رواية "ماء وملح" التي كانت اليوميات فيها هي المحرّك السردي لأحداثِ الرواية، الذاكرة كانت النقطة التي تنطلق منها الشخصيات للبوح والانكشافِ.. وغوص كل من البطلين في أسرارِ الآخر ولكن مع ذلك لا يمكننا حصر مهمّة الرواية بشكل عام في تأجيج ذاكرة الحياة والاعتماد عليها كمادّة خام لصناعةِ الحدث لأنّ روايات أخرى ناجحة انطلقت من أحداث اللحظة وتصاعدت وأخرى كانت استشرافية وتنبؤية تطل بعينها على ما يحمله المستقبل، أحيانًا تأليف وتخيّل الذاكرة الآتية لا يقل أهمية عن رواسب الماضي وما يحمله من أسرار نفسية وتاريخية.
نجد في رواية "جيم" شخصيات تعاني من الشعور بالذنب، هل تشكل هذه الثيمة هاجسًا إبداعيا بالنسبة إليك؟ كانت لتشكّل هاجسًا إبداعيًا لو كان شعورًا يلازم جميع الشخصيات ويتكرّر في كل عمل ولكن لا، هو ليس كذلك حتى في رواية "جيم"، لكل شخصية خصوصيتها ووعيها الأخلاقي الذي يختلف من شخصية لأخرى بنسب متفاوتة حسب القناعات الفردية المتنوّعة في الرواية فشخصية البطلة مثلاً كانت أقل الشخصيات إظهارًا لمشاعرها بما فيها الإحساس بالذنب.. هذا إذا ما كانت تشعر به لتظهره!
لماذا قرّر بطلا روايتك "جيم" تبادل أدوار الحكي، إلى حد وجود حكايتين اثنتين في رواية واحدة؟ من الطبيعي أن تكون هنالك حكايتان في رواية واحدة فالبطلان تقابلا في حافلة ستقلهما إلى الجنوب، تحديدًا إلى مدينة تمنراست وأثناء ذلك السفر الطويل سيتقاربان بما يكفي ليقول كل منهما حكايته، ربما ما كانت لتكون الرواية مقنعة لو كان الراوي واحدًا والآخر التزم الصمت واكتفى بالإصغاء طيلة تلك الرحلة الطويلة وحتى في عالمنا الواقعي المحادثات أيضًا أخذ وعطاء وكثيرًا ما ينسحب المتحدث حين لا يتلقى التجاوب والبوح المتبادل من المصغي.
قلما نجد أنّ الرواية الجزائرية خاضت في موضوع الأمراض النفسية للفرد، ما الذي جعلك تهتمين بهذه الثيمة؟ كقارئة ومشاهِدة للأفلام وكاتبة للروايات أجدني مهتمةً لأبعد حد بمجال علم النفس، إنّه مجال مدهش وساحر وثري بالمواضيع مثل أعماقِ المحيط الذي يثير دهشتنا بألوانه وعالمهِ السرّي، مجالٌ يكشف الكثير من الأسرار عن أعماق النفس البشرية وما نعجز عن فهمه بتحليلاتنا البسيطة والقاصرة لأنفسنا وذواتنا وإن كنتُ قادرة على استخدام ما تعلمتُه بشكل جيّد في أعمالي لن أتردّد كل مرة في تكرار ذلك.
من خلال حكاية أمين، نجد أنفسنا أمام العشرية السوداء، هل هي التي ساهمت في تكوين هذه النفسية المعذبة؟ كي أكون صادقة، العشرية السوداء ساهمت في تكويني وتكوين الكثيرين من أبناء وبنات جيلي خاصّة من عايشوها في فترةِ الطفولة البريئة والمراهَقة بكل تقلباتها المزاجية والنفسية في بيئةٍ غارقة في الألم والخوف والخسارات الفادحة، لقد كان لتلك الفترة تأثيرها البالغ علينا ونحن نكتبُها مرّة لنحلل ما ترّسبَ فينا ومرّة كجزء من ذاكرةِ ماضينا الأليم.
ما الذي أوصل شخصية "جيم" إلى الضياع، بعد مطبات عديدة، منها زواج فاشل؟ هذا السؤال بالذات يجيبُ عنه القارئ ولا يمكنني منحه مفاتيح الشخصية وكشفِ أسرارِها بنفسي، القارئ الذي سيتابعُ اعترافات البطلة ثم يطّلع على مذكراتِ والدها سيمتلك إجابةً معيّنة بينما قارئ آخر قد يمتلك إجابة أخرى ومختلفة كليًا، خاصّة بما يتعلق بقفلةِ وخاتمةِ الرواية، أفضّل ترك ذلكَ البابِ مفتوحًا للقرّاء.
لماذا جاء سفر الأب بشكل مختلف حيث لا يعتمد على الحكي بل على اليوميات أو الرسائل؟ الوالدُ هو شخصية غائبة عن الأحداثِ الفعلية التي تخصّ حاضر الرواية وكان لابد من حيلةٍ سردية مقنعة لإيصالِ صوته وليس هنالك أفضل من التلصص على دفتره السرّي وما تركه من اعترافاتٍ في مذكراتهِ.
ماذا يجد "جيم" و"أمين" في الصحراء، وهو المكان الذي يُعبّر عن السفر مختلفا؟ الصحراء هو فضاءٌ غامض ومختلف ومناسبٌ لمزاجِ المغامرة والهروبِ والاختباء وحتى العزلةِ بالنفس لأجل تقييمها وتحليلها ومحاولةِ معالجتها من هموم داخلية وهواجِس معذّبة.. في الواقع هي مكان جميل للسياحةِ والاكتشاف وفي الرواية الصحراء فضاء مكاني مثير وملهِم.
في روايتك الأخرى "ماء وملح" نجدك تلجئين لفكرة الرسائل أو للرواية "ايبستولير"، لماذا؟ تلك التقنية اخترتُها بعفوية كاملة ومطلقة فرواية "ماء وملح" بدأت برسالةٍ واحدة لصبيةٍ من مدينة غزٍة تراسل حبيبها الذي اعتقل في سجون الاحتلال، الحبيب الذي لم تقابله قط ولم تتعرف عليه وجهًا لوجه بسبب الحصار الذي يخنق مدينتها منذ سنوات وبكل عفوية تشّعبت اليوميات والأحداث وتناسلت الرسائل!
تنتقلين كثيرا بين كتابة الرواية والقصة القصيرة، لماذا؟ بصراحة أجدني بشكل خاص خلقتُ لكتابةِ الرواية، أكتبُها بعفوية وبسهولة وبساطة وأجدها مجالاً فسيحًا لمخيلتي وتشابك الحكايات وتعدد الشخصيات ومسارات السرد بينما القصة أكتبها في مناسبات خاصّة وحالات استثنائية من الإلهام كما أنّ ضوابطها كثيرة وفيها الكثير من القيود الفنية الصارمة.
ماذا تربطين الكتابة الروائية بالكذب (الفني) مثلما جاء في إحدى حواراتك؟ ليس كذبًا خالصًا، هنالك دائمًا حقيقة شاهقة خلف الأقنعة والألاعيب اللغوية والأسماء المستعارة والملامح الجديدة.. الكذب في الكتابة الروائية هنا ليس مسألة أخلاقية بل طريقة ذكية لقول الحقيقة دون قولِها كما هي، حقيقة مغلّفة بالكثير من التفاصيل كي يحتفظ الكاتبُ بخصوصيته ويمنح نفسه متعة التخيّل والذهاب بعيدًا في ذلك ويكون وشخصياته ما يشاء أو ما يرفض أن يكونه مثلاً في العالمِ الواقعي. الكتابة هي ساحة عظيمة للحرية ومن خلالها بإمكان الكاتب أن يعيد خلق عالمٍ بأسره ويعيش فيه مجنونًا أو مطمئنًا دون أن يحاسبه على ذلك أحد!
هل أنت كاتبة واقعية، أم كاتبة تحور الواقع حتى ترضي نزعتها الإبداعية؟ ا أستطيع أن أقول بأنّني كاتبة واقعية كليًا رغم أنّ معظم نصوصي من قلب الواقع وتفاصيله ولكنّني أيضًا كتبتُ الدخلاء وكانت تجربة في الكتابة الغرائبية ولديّ دائمًا تلك النزعة بالمغامرة والتجريب.. وتمرين أصابعي على ألوانٍ أدبية جديدة لم تألفها، أمّا بالنسبة للنصفِ الثاني من السؤال فبلا أدنى شك أحوّر الواقع في معظم الأحيان إرضاءً لنزعتي الأدبية وإلاّ كنتُ لأكون بمثابةِ كاميرا تسجيلية فقط لما يدور أمامها وحولها، كاتبة تلتقط وتكتبُ ثم تشارك ما التقطته الناس عنه وهذا مختلف عن طبيعتي وبعيد عن مخيّلتي الجامحة.
صدر لك مؤخرا مجموعة قصصية بعنوان "إبليس يطلب المغفرة"، متى تشعرين بالعودة إلى القصة القصيرة؟ لا أفكّر كثيرًا بالعودةِ إلى القصص القصيرة ولا أستأذنُ نفسي قبل كتابتِها أي ليست مشاريع بقدر ما هي حالات مباغتة من التخيّل وومضات ألاحقها لأكتبها، كما أنّ بعض قصص إبليس يطلب المغفرة شاهدتها أثناء نومي أي بعضها أحلام مكتوبة.
وهل تراودك نفس الحالة عندما تفكرين في كتابة الرواية؟ الرواية أستغرق وقتًا أطول في تخيلها وعيش أحداثها وأحيانا البحث في مواضيع تخصها.. كأن يتعلق الأمر بالمسائل التاريخية مثلاً أو بحقائق علمية، كل هذا يحدث قبل الكتابة والنقطة التي تتشارك فيها مع القصة هي الانفعالات القوية التي تساورني أثناء الكتابة من ناحيةِ التخيل والتأثر والتقمص، هنالك شخصيات تعلمتُ من جرأتِها ومواقفها الكثير ورحتُ أقلّدها حتى في تسريحة الشعر وطريقة اللباس وفي اتخاذ قرارات ربما جبنت عن اتخاذها في الواقع، الفرق بين انفعالات القصة والرواية هي أنّ انفعالات الرواية أقوى بما أنّها تستغرق زمنًا أطول وغوصًا أعمق في التفاصيل.