صدر مؤخرا، عمل جديد، للكاتب والإعلامي عمار بورويس، وهو العمل الروائي الأول له بعنوان "ليالي سردينيا"، عن منشورات "الوطن اليوم"، الرواية تمنح للقارئ جواز سفر ينتقل من خلال صفحاتها بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، حيث أجاد الكاتب الربط بين قرية "زيوجة" الواقعة بالشرق الجزائري "مسرح أغلبية أحداث الرواية" والجزيرة الإيطالية "سردينيا"، وقال إن كل شيء في المنطقتين متشابه تقريبا من حيث الطقس وجغرافية المكان، لكن الفرق بينهما كان في المسار السياسي والفكري والمعاناة. جاء في غلاف الرواية" أقمت في سردينيا أسبوعا واحدا فقط، أو هكذا اعتقدت، ولم يكن ذلك الأسبوع في نهاية الأمر يشبه بقية الأسابيع .. كان عمرا كاملا مفتوحا على ستين عاما من تاريخ قريتي الصغيرة هناك في الريف، على الساحل الشرقي للجزائر، مرّ أمامي كشريط سينمائي أخاذ.. هكذا حدث الأمر من دون مقدمات.. ومن دون أن يظهر لي، في البداية، أي سبب واضح، يربط بين ضفتي المتوسط بمثل تلك السهولة والمرونة". يجد قارئ الرواية المتعة في تصفحها، كونها تجمع مختلف المشاعر والأحاسيس، من حب وكره، وحزن وفرح، من خير وشرّ ومن جمال وقبح..، أجاد عمار بورويس استعمال العبارات واللعب على مشاعر القارئ، تجعل متصفح الرواية منذ صفحاتها الأولى يغرم بها ويكمل قراءتها في ظرف وجيز وقياسي. يحمل الكتاب من الحجم المتوسط، قصة صديقين يلتقيان في "سردينيا" إحدى الجزر الإيطالية المعروفة، بعد أربعين سنة من الفراق، كانت الصدفة سبب لقائهما، ويا له من لقاء، يستعيد الصديقان خلال خمس ليالي متتالية، تاريخ قريتهما الصغيرة "زبوجة" بشرق الجزائر "بالقرب من عنابة" منذ الاستقلال إلى غاية 2020، انطلاقا من السنوات التي أعقبت الاستقلال، مرورا بالعشرية السوداء، وصولا إلى الحراك الشعبي. تقع الرواية في 175 صفحة، يسرد فيها الكاتب زيارته ل "سردينيا"، هذه الجزيرة النائية في بلاد الغرب على الجانب الآخر للمتوسط، وكيف ربطها بورويس بقريته الصغيرة التي تعتبر من القرى النائية أيضا في الجزائر. كانت قرية "زبوجة" مسرح أغلب أطوار الرواية التي كان بطلها "رشيد" ابن زبوجة الذي وجد نفسه بين أحضان "سردينيا" تائها لسنوات طويلة من عمره، حيث تتضمن الرواية بعض مواقع الحب والفرح وبعض محطات التفاؤل، لكن يغلب عليها جو الحزن واليأس والظلامية نظرا للفترة التي تتناولها التي تعتبر من أحلك الفترات التي عاشتها "زبوجة" والجزائر ككل. واعتمد الكاتب على مفردات سهلة وبنا روايته على الحكي والسرد، حيث نجد بطل الرواية "رشيد" يسرد ما حصل له بدون توقف، يقدم تفاصيل حول ما مرت به المنطقة من أهوال ومعاناة وويلات الحروب والاستعمار، مبينا مدى التضامن النفسي والوعي عند البعض في تلك المرحلة الزمنية الصعبة، فجمع بذلك الكاتب في روايته بين سرد ذاتي والتأريخ لمرحلة زمنية معينة، لتكون الرواية اجتماعية وتاريخية بامتياز. يقص علي بورويس حالة "رشيد" صديق الطفولة الذي أنهكته متاعب وهموم الحياة، وجعلته يعيش في مجتمع ربما لم يكن لينتمي إليه لو كان الخيار له، حيث يحتفظ "رشيد" ورغم غربته الطويلة بكل ذكرياته، رغم تغير زيّه الخارجي وأصبح بمظهر رجال الغرب، لكنه يحتفظ بداخله كما كان في "زبوجة"، كما يبين تعطشه لسرد همومه والتخلص منها بمجرد لقائه بصديقه، ويظهر وكأن رشيد كان يتحين الفرصة للتخلص من ثقل وعبئ كسر ظهره لسنوات، فبمجرد وجوده معه استعاد الذكريات والتاريخ والأحداث بكل تفاصيلها، التي امتدت لسنوات العمر الطويل وتمت كتابتها في خمس ليال فقط. كان اللقاء سهرة كل يوم بفندق يسرد فيه الصديق "رشيد" كل الأحداث، ويدونها الكاتب بعد خلوته في غرفته بالفندق المجاور، وقد تفوّق الكاتب على نفسه في السرد ونقل الصورة والتشبيه، وخلق متعه القراءة بوصفه، لكن تفاصيل السهرة من لباس رشيد وسيجارته وزخات المطر وتذوق القهوة ... وغيرها من الأمور التي تجعل القارئ يستمتع بما يقرأه ويخلق صورة خيالية للمشهد ويشعر أنه جزء من الحدث. استطاع الكاتب ربط الأحداث بالماضي والحاضر والمستقبل بوعي شديد وبمتعة غير متناهية، فالماضي كان كل ما قصّه عليه "رشيد" من مأساة "زبوجة" الجريحة التي خرجت من ويلات الاستعمار ودخلت في ويلات العشرية السوداء، لتكون "زبوجة" نموذجا لوطن عاش الويلات لسنوات، وكان أن دفعت هذه الأوضاع برشيد إلى مغادرتها، رغم أنه لم يكن في حسبانه تركها في يوم من الأيام، تجسد الماضي الطاغي على أحداث الرواية أيضا من خلال ظروف تنقل رشيد وهروبه من آلة الإرهاب إلى خاله في فرنسا، المنعرج الحاسم في حياة رشيد، الذي تأكد فيما بعد أن لا مكان له في "زبوجة"، بعد أن تم تهديده بالتصفية الجسدية، تجسد الحاضر في الرواية في تنقل الكاتب إلى "سردينيا" وسبب وجوده في هذه الجزيرة النائية التي كانت تخفي له هدية لم تكن على البال ولا الخاطر، وهو الذي قال " لم أكن في ذلك أختلف عن موسى ابن نصير إلا في نوع الجائزة... كان حصاده ذهبا وكانت جائزتي رواية". هكذا شبه الكاتب أسبوعه في سردينيا الذي كان بمثابة عمر كامل مفتوح على ستين سنة من تاريخ "زبوجة" الساحرة.