يكتسي شهر رمضان المعظم في تركيا، وهجا إيمانيا تعكسه موائد الرحمة والخيم الرمضانية المختصة في استقبال الفقراء وعابري السبيل، والمساجد التي تنار بقوة مرحبة بالشهر الفضيل بعبارة «مرحبا بسلطان الشهور»، فتضاء المآذن العديدة لأكبر المساجد في اسطنبول العاصمة الثقافية والسياحية لاستقبال المصلين والباحثين عن الرحمة والمغفرة والعتق من النار لصلاة التراويح وتلاوة القرآن الكريم والصلاة على المصطفى الكريم تكرارا ومرارا، كما تتفنن الأسواق من خلال عرض مختلف الأذواق والأنواع والألوان من المأكولات التي يحتاجها الصائم على مائدة الإفطار والسحور، وتجتهد البلديات في خدمة الصائمين وعابري السبيل، حيث تنصب الموائد الكبيرة في الشوارع أو بجانب المساجد، كما هو حال بلدية أيوب التي نزلنا ضيوفا عليها بشارع الصدق التي تتكفل بإطعام 1100 شخص يوميا في 28 نقطة منهم سياح، ليلتف الجميع حول مائدة إفطار رمضانية مثقلة بمختلف المأكولات التقليدية والعصرية التي يشرف على إعدادها طباخون يحرصون على إمتاع ضيوفهم بما لذ وطاب من أنواع الشوربة، المقبلات، المشويات والحلويات. جميل جدا أن تصوم رمضان وسط أهلك وأحبتك، والأجمل أيضا أن تقاسم إخوتك المسلمين في بقاع الأرض فرحة الصيام، هذا هو الحلم الذي تحقق من خلال الرحلة التي قادتنا إلى تركيا بدعوة من الخطوط الجوية التركية، وتحت إدارة وكالة روتانا للسياحة، حيث أشار السيد اميني عبد الله إلى أن لرمضان في اسطنبول سحرا لا يقاوم ولابد من مشاهدته وبالضبط في اسطنبول الشهيرة بمساجدها ذات النمط العمراني الموحد سواء القديمة منها أو الجديدة، فنظرا لكثرتها تصنع التميز على مدار السنة إذ يوجد باسطنبول وحدها أزيد من 3200 مسجد تصدح بالآذان وقد تزينت بإنارة قوية وملونة بهجة بقدوم «سلطان الشهور»، كما يسميه الأتراك. غادرنا الوطن في رابع يوم من رمضان، حيث ركبنا على مثن الخطوط الجوية التركية في حدود الساعة الحادية عشر صباحا، وكلنا شوق للوصول إلى هناك لاكتشاف ومشاهدة يوميات رمضانية في اسطنبول، جالت بخاطرنا الكثير من الأمور، منها كيف هو رمضان بتركيا؟ وهل سنقوم بواجبنا الصحفي على أكمل وجه ونحن مسافرون وصائمون؟ وهل سيسعفنا الحظ في مشاهدة سحر اسطنبول الذي سمعنا عنه؟ خاصة أن الكثيرين يرون في رمضان بتركيا فرجة، نظرا لمجموع الأشياء المميزة على أرض السلاطين العثمانيين. وبعد 3 ساعات ونصف من الطيران وعبور المدن والبلدان أشارت المضيفة إلى الاعتدال في الجلوس فقد وصلنا اسطنبول وسنحط قريبا،... رحت أراقب كل كبيرة وصغيرة من نافدة الطائرة بفضول صحفي لأننا سنشاهد المدينة نهارا، وهو شيء جديد، حطت الطائرة وأكملنا ترتيبات الدخول بسرعة، ركبنا الحافلة التي جاءت لاستقبالنا وقد هنأنا سائقها ودليلها السياحي على السلامة وقدوم الشهر الكريم. كانت المحلات مفتوحة والمطاعم أيضا لخدمة السياح من الجنسيات المختلفة، بينما شاهدنا مطاعم أخرى مغلقة في الفترة الصباحية، وصلنا إلى الفندق باقصراي، «القصر الأبيض»، حيث وضعنا أمتعتنا وطلب منا الاستراحة من السفر على أن نتقابل في حدود الساعة السابعة ونصف، حيث حضر السيد سامي فوزي أوغلو المدير العام لشركة روتانا، لاصطحابنا لأفخم مطعم في مدينة اسطنبول، حيث قام ببرمجة أشكال مختلفة للإفطار في تركيا حتى نعيشها بتفاصيلها، وقد حظينا بإفطار في أفخم مطعم، وآخر على مركب بحري، وثالث مائدة إفطار جماعي، اجتمع حولها على قول «باسم الله». فبعد جولة خفيفة في أماكن سياحية قصدنا مطعم المدينة «هاتاي» فخر المكان، الذي تقصده العائلات التركية التي تفضل التخلص من الروتين أو الاستمتاع بأذواق مختلفة لأطباق تحضر في ذلك المطعم الذي يوجد به 100 نادل لتغطية طلبات الزبائن حيث يستقبل 250 شخص دفعة واحدة ويقدم لهم ما لذ وطاب في ذات الوقت في صورة تعكس الحرص الكبير على خدمة السياح والصائمين من أبناء المدينة. وقد اجتهد مضيفنا في تقديم مختلف أطباق المائدة التركية من شوربة، مقبلات، سلطات الخضروات وسلطة الطحين المزينة بالبقدونس، ومختلف أنواع الكبات. إلى جانب أنواع مختلفة من الحلويات التي تعرف بها المنطقة وعلى رأسها الكنافة الساخنة بالجبن، عش البلبل وحلوى الفستق الحلبي والتي كانت مصحوبة بالشاي الذي وضع على مائدة الإفطار مباشرة، علما أن أول ما يتم تناوله عند الإفطار هو شراب الورد، وهو مشروب حلو يقدمه الساقي الذي يرتدي الزي التقليدي المكون من جاكيت وسروال مدور من القطيفة ومزين بالشعرة، ويحمل على كتفه آنية سقاية كبيرة نحاسية وقد ملئت بهذا المشروب الذي يعبق المكان. كما تحتضن المائدة التركية التمر واللبن، إلى جانب الزيتون الجبن والعسل والقليل من الزبدة والدولمات بمختلف أنواعها على غرار دولمة الفلفل الأخضر والكوسا والباذنجان التي عرضت بأشكال وأذواق مختلفة، حيث أشار السيد سامي اوغلو إلى أن المطبخ التركي غني جدا، حيث تزين المائدة بأشكال مختلفة من المقبلات والسلطات ثم تقدم المشاوي المصحوبة بالخضار أو الأرز أو بعض المعجنات الخفيفة ثم يأتي دور الحلويات والشاي. وإذا كانت هناك عائلات تقصد موائد الإفطار الجماعي لسبب أو لآخر، فإن هناك من العائلات من تخرج قبل موعد الإفطار بنصف ساعة لتفترش زربية في إحدى الحدائق المطلة على بحر مرمرة لتجمع بين جاذبية الخضرة وزرقة البحر، وتصطف إلى جانب بعضها البعض، لتفرغ ما حملته السلال الكبيرة من طعام لا تغيب فيه الشوربة أبدا. في حين تفضل عائلات أخرى الأماكن القريبة من المساجد الكبيرة حتى يتسنى لها التواجد بها فور الانتهاء من تناول الطعام ومنه الحصول على الصفوف الأولى بها. المسجد الأزرق... تحفة روحانية تسر الناظرين في السهرة الرمضانية الأولى قصدنا المسجد الأزرق وهو من أكبر المساجد الموجودة في قلب اسطنبول يستقبل وفود السياح في الصباح ووسط النهار وجموع المصلين لأداء صلاة التراويح في الليل، حيث أشعلت إنارة مآذنه الست فرحة بقدوم رمضان وقد تزينت جدرانه بالأضواء المتلئلئة وصدحت مكبرات صوته بتجويد القرآن الكريم والصلاة على المصطفى الأمين بعد كل صلاة للتراويح. ورغم شساعة المسجد إلا أن الإقبال الكبير عليه جعل المصلين يؤدون صلاة التراويح في فنائه الكبير، حيث افترش البعض رخامه للصلاة. والمميز أن الصلاة على الرسول الكريم غير منقطعة هناك، حيث تصدح الحناجر بها فور التسليم من الركعات في صلاة التراويح فتطبع المكان روحانية خاصة، الكبار والصغار والنساء والأطفال كل راكعون ساجدون لرحمة الله طالبين. أما السياح فلم يغفلوا من جهتهم مشاهدة المساجد التركية في الليالي الرمضانية، خاصة أنها تظل مفتوحة ويتلى فيها القرآن للسحر ثم الفجر بدون انقطاع. وغير بعيد عن المسجد الأزرق فتح الباب العالي أو قصر «توب كابي» أبوابه للسياح لمشاهدة الإرث الكبير الموجود بين جوانبه، وهي حجرة الأمانات المقدسة التي تحوي مقتنيات للرسول الكريم والصحابة التي يسمح بدخولها خلال رمضان، حيث تعج هذه الأماكن بالسياح الذين يراوحون المكان لوقت طويل، خاصة أن الباعة والتجار يجتهدون في عرض مختلف التحف التقليدية للبلاد وكذا مختلف أنواع السبحات وملابس الصلاة للجنسين إلى جانب السجاجيد المختلفة الألوان ذات الجودة العالية. هناك لا يزال المسحراتي يدق الطبل بين الأزقة والشوارع لإيقاظ جموع الصائمين للسحور، وعادة ما تكون وجبة السحور التركية مشكلة من جبن وخبز وزيتون مصحوبة بالشاي. أما بالنسبة لعشاق المشاوي فإن العربات الصغيرة المتفرقة في الشوارع الرئيسية والأماكن ساحة السوق المصري، وشارع الاستقلال تضمن السحور مقابل مبالغ زهيدة، حيث يحضر سندويش الشواء المشكل من مختلف أنواع اللحوم، كما يفضل آخرون تناول حبات الذرى الشهية المملحة التي تعبق رائحتها المكان. كما اختار تجار الفن إمتاع السياح وأهل البلاد بعرض أشكال مختلفة للوحات فنية بشارع الاستقلال عرضت الجمال والإبداع بكل أبعاده، كما لم يغب عن الشارع كالعادة عازفو الموسيقى الذين يلتف الناس حولهم. مسجد أبي أيوب الأنصاري و1100 صائم تتميز تركيا بموائد الإفطار الجماعية التي تعكس صورة التلاحم والتراحم بين المسلمين والإحسان لعابري السبيل، حيث لا تستثني الموائد أي شخص، فعند وجود المكان مرحبا بمن جلس فيه لتناول طعام الإفطار، حيث تنصب الموائد العملاقة في مختلف البلديات لخدمة الفقراء والمعوزين وعابري السبيل، وقد نزلنا ضيوفا على بلدية أيوب وبالضبط بمسجد أبي أيوب الأنصاري بشارع الصدق، حيث استضافنا رئيس بلديتها الذي أشار في معرض حديثه إلينا إلى أن البلدية تتكفل ب28 نقطة طوال الشهر الكريم وتفطر 1100 صائم وهي التكاليف التي تدفعها الدولة. حيث التف الصائمون حول موائد الإفطار بقرابة ساعة قبل الموعد، بعد أن أخذت العائلات والأفراد أماكنهم، وشرع القائمون على عملية الخدمة، من طباخين مختصين وشباب تابع للبلدية وآخر متطوع، بتوزيع ما لذ وطاب من المأكولات الشهية التي فاحت رائحتها في المكان الذي تلألأ بالأضواء بداية من الخبز واللقم مرورا بقارورات الماء والعصائر وصولا إلى أطباق الشوربة والطبق الرئيسي. والمميز في الأمر أن كل من أدركه وقت الإفطار سواء كان غنيا أو فقيرا يجلس على المائدة لمقاسمة أخيه الفرحة. وقد أشارت سيدة تركية وجدناها هناك جاءت للإفطار رفقة ابنتها الوحيدة أنها تفطر منذ سنوات هناك، حيث تؤمن تلك الموائد ما لذ وطاب من الخيرات التي يصعب أحيانا تأمينها في المنزل سواء لضيق الوقت أو للعوامل المادية. استمتعنا يومها بإفطارنا ذاك الذي شعرنا من خلاله أننا نعيش أجواء مطاعم الرحمة الموجودة في جزائرنا، حيث تتجلى سماحة الدين الإسلامي والتضامن مع المحتاجين والفقراء في شهر الرحمة. وبعد أن فرغنا من الإفطار وتناولنا الشاي التركي بالكنافة وعش البلبل، انغمسنا في جولة بسوق أيوب الكبير الذي تباع فيه مختلف أنواع المسك، السبحات، الخمارات، المصاحف وسجادات الصلاة، وحتى ماء زمزم المبارك، إلى جانب الهدايا القيمة. وغير بعيد عن المكان شاهدنا منصة مجهزة على الهواء الطلق، أوضح دليلنا السياحي شريف عريق أنها تحتضن السهرات الرمضانية والأناشيد، علاوة على حضور إمام يجلس هناك للرد على انشغالات الناس الدينية والدنيوية، حيث يطرح الأشخاص أسئلتهم وهو يجيب على مدار الشهر المبارك. التوابل ...الشاي المعطر والحلويات الشرقية تصنع الحدث تسلحت الأسواق التركية بكل ما تشتهيه النفس، فقد شاهدنا في كل من سوق السلطان أحمد والسوق المصري اللذين قمنا بجولة فيهما أن التجار قد اجتهدوا في توفير كل ما تحتاجه العائلة على مائدة الفطور والسحور، وقد شكلت الفواكه الجافة المصاحبة للأطباق الحلوة علامة مميزة، حيث عرض الزبيب والتين الأبيض الباهض الثمن وكذا الكيوي المجفف والأناناس، كما شد إعجابنا قشر الليمون الأخضر المحفوظ بطريقة 100 بالمائة تركية والذي يستعمل في القطر، وصناعة الحلويات والتزيين. ولأن للدولمة مكانة خاصة على المائدة التركية فقد عرضت أيضا حلقات مجهزة للباذنجان المجفف، التي تستعملها السيدة التركية لتحضير الأطباق التقليدية. أما التوابل بمختلف أشكالها وأنواعها فقد عرضت بطريقة جذابة، وقد فاح عطرها مما يشير إلى أنها جديدة، حيث عرضت تتبيلات، خاصة لتجهيز مختلف أنواع الشوربة وخلطات لتحضير الكبة واللحم المشوي، وخلطة خاصة للسمك المشوي. كما أن للشاي مكانة خاصة على المائدة التركية لذلك عرضت أنواع مختلفة منه، فإلى جانب الشاي الأحمر عرض الشاي الأخضر المخلوط بقشر البرتقال أو الليمون، وكذا شاي الأزهار العطرة لتحسين المزاج أو شاي الورود الجورية لخدمة الدورة الدموية. ولا يمكن الحديث عن المائدة التركية دون ذكر الكنافة والقطايف وعش البلبل وهي الحلويات التي تفنن صناع الحلوى في عرضها إلى جانب الحلقوم فخر الحلوى التركية، وهي الحلويات التي تباع بالميزان علما أنها مصنوعة من أجود أنواع الفواكه الجافة وعلى رأسها الفستق الحلبي. إفطار على نسيم البوسفور شاءت الصدف أن نعيش شعورا من نوع آخر من خلال الإفطار على أرض السلاطين العثمانيين في شهر الرحمة والبركات، حيث حظينا بجولة بحرية على متن باخرة روتانا التي نظمت برنامجا ثريا للترفيه عن الصائمين، حيث استقبلنا طاقهما بفرحة كبيرة، وأشار قائدها إلى أنه سيعلمنا بوقت أذان المغرب، حينها استمتعنا بمشاهدة الجسور الجذابة على غرار جسر مضيق البوسفور وجسر محمد الفاتح، وفخامة القصور والمساجد المترامية على الضفاف والتي زادت المكان سحرا، خاصة أنها شامخة وتحاكي تاريخ وبطولات الرجال. يومها استمتعنا بسهرة مهربة من الأحلام ستظل مخزونة في الذاكرة، حيث شاهدنا العروض السحرية، واستمعنا للموسيقى الشرقية والعالمية، وتعرفنا على طقوس العرس التقليدي التركي وكذا الحنة، وقد أشار السيد سامي اوغلو مدير شركة روتانا في حديثه ل«المساء» إلى أن شركته تحرص على إسعاد السياح وتحقيق عنصر الترفيه خلال الإقامة بتركيا، لأنه يعتبر اختياره شرفا يرد عليه بخدمات مميزة، مشيرا إلى أن مسيرته المهنية تعدت 30 سنة في مجال السياحة مما ساعده على معرفة طريقة تفكير السياح على مختلف أطيافهم ومشاربهم، مؤكدا أن السياح الجزائريين في قمة الأخلاق والأدب وأن التعامل معهم مريح لأبعد الحدود.