إحساسها المرهف دفعها إلى كتابة الشعر والخاطرة لتجد نفسها تنجذب نحو مورث تراثي ترفيهي شعبي جزائري موزون، نخال كلماته شعرا وهي ما يعرف عندنا منذ القدم بالبوقالة، هي لعبة مسلية هدفها نشر بسمة أمل بواسطة كلام جميل يبعث نسائم التفاؤل في نفوس نساء متأمّلات في عودة غريب أو قريب أو التئام شملهن مع الحبيب، هذه اللعبة الشعبية التي اختفت سنوات لتعود من جديد وتجد لها ترحابا منقطع النظير بين أوساط العائلات بفضل المحافظين عليها، منهم السيدة فتيحة دحماني المختصة في مثل هذا النوع من الكتابات، كان لها ما تقوله عن القيمة المعنوية للبوقالة ومكانتها عند المرأة الجزائرية وسر تشبّث العائلات الجزائرية بهذا الموروث الذي بات متواجدا ليس فقط في السهرات الرمضانية، بل حتى في الحفلات والمناسبات السارة كالزفاف والختان وغيرها.. ^ باعتبارك باحثة في موروث شعبي ترفيهي قديم ومختصة في الكتابة فيه، كيف تعرّفين البوقالة لمن يجهلها؟ ^^ هي لعبة قديمة محبوبة، أساسها الفأل الزين، صنعت لها اسما بعد أن وجدت مكانا بين الأوساط الشعبية في حقبة تاريخية صعبة، فكانت بمثابة فسحة أمل للنساء المتأمّلات في عودة الغائب المنتظر.. وكانت رائجة بكثرة في السهرات الرمضانية الطويلة، رغم أنه لم تحدّد هوية من بعث هذه اللعبة الشعبية للوجود، إلا أنّه وحسب البحث والتقصي، أوّل من اهتم بالبوقالة هو الباحث الجزائري "قدور محمصاجي" المنحدر من أسرة عاصمية عريقة، ترعرع في القصبة وكان هو من أصدر أوّل كتاب بالفرنسية حول البوقالة سنة 1989، كما يعتبر أول معد لبرامج وحصص إذاعية تهتم بهذا الموروث الشعبي العريق، مبرزا أهداف البوقالة أنذاك، محذرا المستمعين عبر الأثير من تحويل مبدأ هذه اللعبة من التفاؤل من باب "تفاءلوا خيرا تجدوه" للتكهّن والدخول في غيبيات محرّمة. ^ ما هي أجواء التحضيرات للبوقالة؟ ^^ قديما، كان لتحضير "البوقالة" طقوس جميلة، فلا تبدأ اللعبة إلاّ في حضور سينية القهوة والشاي والحلويات على كل لون، البقلاوة، القطايف، قلب اللوز والزلابية وأهمها حلويات رمضانية، لتلتف بعدها النساء حول تلك السينية المزيّنة بكل ما لذ وطاب، تحضّر بعدها إحداهن إناء من الطين مملوء بالماء الصافي، فتنزع الفتيات العازبات خواتمهن ويلقينها في قلب ذلك الإناء الفخاري أو ما يعرف ببوقالة، ومنها استمدّت اللعبة اسمها، ويغطى الإناء بعدها بمنديل نظيف ولا تحلو البداية إلاّ بذكر النبي الحبيب والاستغاثة بالمولى عز وجل، أي بقول "بسم الله بديت وعلى النبي صليت وعلى الصحابة رضيت وعيطت يا خالقي يا مغيث كل مغيث يارب السما العالي نولي اللي في بالي". ليستحضر الفأل "يا فال يا فلفال يا فاتح سبع قفال اجبر لي سعدي مهما كان من الشرق ولا من الغرب ولا من الشمال"، ويواصل في الرجاء لتلقي بوقالة تبعث شيئا من التفاؤل في نفوس النساء المجتمعات، بعد أن تعقد الفتيات النية حول شخص ما قريب أم حبيب.. ^ من الخاطرة إلى الشعر، إلى البوقالة، كيف استطعت الجمع بين كلّ هذه الفنون الخطابية التي ليست عادة سهلة على امرأة لم تأخذ حظا وافرا من الدراسة والتعليم؟ ^^ إنّها الموهبة الربانية، مدعّمة بإحساس مرهف وخبرة حياة طويلة، فيها الحلو والمر ومواقف ومحطات عديدة تستوقفنا، هناك من يبقى كالمتفرج، وهناك من يصنع الحدث ويترك أثرا خالدا يؤرّخ لها، أي لتلك المواقف التي مرت عليه والمحطات التي توقّف عندها، فأنا امرة عصامية مثابرة. صحيح أن حظي من التعليم كان قليلا، لكني سعيت إلى نيل علم من أهم مدرسة ألا وهي مدرسة الحياة التي ألهمتني ومنحتني ملكة الإبداع في مجالات هامة كالشعر والقصة والبوقالة، هذه الأخيرة نشرت بخصوصها ثلاثة كتب من تأليفي سنة 2007، في إطار الجزائر عاصمة الثقافة العربية. ^ نريد سماع بوقالة من تأليف فتيحة دحماني. ^^ "الوردة يا الوردة صفتك تبهّر وريحتك تعطّر، ندخل جنانك ونخطفك وانا بالبرنوس مستر". وهذي بوقالة أخرى "يما يا يما شوقتيني لزيارة المقام ومن ما زمزم شربت وشفيت من السقام إن شا الله نطير على جناح لغمام وللكعبة المشرفة نمشي بالأقدام". ^ ماذا عن الصدى الذي أحدثه صدورها؟ ^^ الصدى واسع وجميل، وطيب إذ جلبت لي هذه الكتب شعبية وصار اسمي متداولا في هذا العالم الترفيهي الشعبي الهام، فأصبح لي حظ المشاركة في الحفلات والأعراس أيضا، حيث بات تواجد الفأل الزين في المناسبات السارة أمرا مستحبا، بل ضروريا للبعض، وأصبحت البوقالة حاضرة في كلّ فرح جزائري وفي مناسبات الختان التي تكثر في هذه الأيام المباركة تيمنا ببركة وفضل هذا الشهر الكريم. رمضان كريم وكل عام وأنتم بخير...