قدمت الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث العلمي، مشروع "مدرسة جزائرية دون عنف" يقوم على تطبيق عدة استراتيجيات، لعل أهمها تطوير التكوين وإعادة الرسكلة لمختلف العاملين بالمؤسسات التربوية، بمن فيهم حراس المدارس، وقال مصطفى خياطي رئيس الهيئة؛ إن هذا المشروع الذي أشرف على إعداده أساتذة وباحثون مختصون- أعضاء الهيئة- سيتم تقديمه إلى وزارة التربية بغية اعتماده كاستراتيجية وطنية تهدف إلى القضاء على العنف في الوسط المدرسي. يشهد واقع المدرسة الجزائرية أن سلوك العنف أصبح لغة التواصل والتخاطب وأسلوبا معتادا في الإقناع بين المعلم والمتعلم، وبين هذا الأخير ومعلمه، أو بينهم وبين الإدارة، وحتى بينهم وبين الأولياء، فهل يدل ذلك على وجود خلل في المنظومة القيمية للمجتمع؟ وهل تدل هذه السلوكات السلبية على وجود مشكلة عميقة في أخلاقيات التربية والتعليم؟ وهل يعبر العنف عن انحراف المدرسة وعجزها عن أداء رسالتها المقدسة في المجتمع بتكوين مواطنين يتعاملون بالحوار والأفكار؟ التكوين حل مثالي للإشكالية حول هذه التساؤلات، حاول أساتذة في علمي النفس والاجتماع خلال ندوة علمية بعنوان "نحو مشروع مدرسة جزائرية دون عنف"، نظمت مؤخرا بالعاصمة، إعطاء مقاربات يرونها محورية لعلاج آفة العنف في المدارس، حيث كشف الدكتور خالد عبد السلام، أستاذ محاضر بقسم علم النفس في جامعة محمد الامين دباغين بسطيف "2"، في حديث خاص مع "المساء"، أنه لا بد من إعادة النظر في أساليب العملية التعليمية من خلال إخضاع مختلف القائمين على هذه العملية للتكوين أو لإعادة الرسكلة، واعتبر أن التغيرات الكثيرة التي مست مجتمعنا في العشريات الأخيرة كان لها بالغ الأثر في تنامي كل أشكال العنف بين الأفراد. ويشرح الأستاذ تصوره للعنف في الوسط المدرسي، انطلاقا من معطيات معينة، لعل أبرزها أن المدرسة الجزائرية حاليا تواجه مشكلات متنوعة ومتعددة الأبعاد، سواء النفسية أو التربوية أو السلوكية، وترتبط ارتباطا وثيقا بالتحولات العميقة التي يمر بها المجتمع على المستويات القيمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إضافة إلى تأثيرات التكنولوجيا المعاصرة وخاصة تطور تكنولوجيا الاتصال والإعلام والمعلوماتية، نظرا لما توفره من صور ومشاهد وتقنيات ممارسة مختلف أشكال العنف الجسدي، وهو ما أثر على تنامي أشكال العنف داخل المؤسسات التربوية، كالعنف تجاه التلميذ والعنف تجاه الأستاذ أو العنف بين التلاميذ أنفسهم أو من التلاميذ تجاه الإدارة والعكس.. وغيرها، "لذلك أصبحت الكثير من المتوسطات والثانويات مسرحا للكثير من أشكال العنف، كونهما يتزامنان لمرحلة المراهقة التي يكون فيها المتعلم ذو حساسية كبيرة لكل أشكال اللوم والاستهزاء، وحساسية لكل أشكال التعامل بالأوامر والنواهي". وأضاف قائلا بأنه بناء على دراسة تحليلية ميدانية تم إجراؤها لمحتوى محاضر مجالس التأديب لظاهرة العنف الممارس فعليا داخل المدرسة ونوع المتعلمين الذين يمارسونه من حيث مستواهم الدراسي، وضحاياه من أساتذة ومساعدين تربويين، وأثاث المدارس والأسباب التي تقف وراء حدوثها، فقد تبين مدى التأثير السلبي الكبير لانعكاسات العنف على الأداء التربوي للأساتذة ومردود المتعلمين، "لذلك عملنا على تقديم تصور لمشروع نفسي بيداغوجي ينشد تحقيق مدرسة دون عنف، يرتكز على تطبيق مجوعة من الاستراتيجيات، لاسيما منها إستراتيجية التكوين النفسي البيداغوجي المستمر لكل المتعاملين مع التلميذ تدعم بمدونات خاصة بكيفيات التعامل مع مختلف وضعيات سلوك المتعاملين، واستراتيجيات بيداغوجية تقوم على إثراء المناهج التربوية، وتنويع أنشطتها بما يرسخ لدى المتعلمين قيم الحوار وثقافة التسامح وقبول الآخر. كما هناك إستراتجية التنشيط للحياة المدرسية ثقافيا ورياضيا وعلميا بما يخفف من الضغوط النفسية المختلفة، إلى جانب إستراتيجية تقوم على التوعية والتحسيس عن طريق نشاطات الإعلام المدرسي، بمعنى إقامة معارض وأنشطة سمعية –بصرية تتناول الآثار السلبية لظاهرة العنف والبديل لها، وهذا بشكل دوري داخل المدرسة وبمساهمة المتعلمين والأساتذة أنفسهم، وهناك كذلك إستراتيجية تقوم على الإرشاد النفسي بمختلف الأشكال والتقنيات للمتعلمين أنفسهم، والأساتذة وكل الطاقم التربوي بما فيه حراس المدارس، "فهؤلاء –يقول المختص- قد تواجههم ضغوطات ومشكلات وتوترات نفسية أو ظروف مهنية واجتماعية تعيق توافقهم النفسي والمهني، وخضوعهم لحصص الإرشاد النفسي كفيل بمساعدتهم على تحقيق مقومات الصحة النفسية". وبعد كل هذه الاستراتيجيات، تأتي إستراتيجية التنسيق والتعاون بين الأسرة والمدرسة ومختلف مؤسسات المجتمع لمواجهة مختلف أشكال العنف المتفشية في محيط المدرسة وفي المجتمع بهدف تعزيز ثقافة السلم والتسامح وثقافة الحوار وقبول الآخر. إنشاء خلايا استماع من جهتها، تعتقد الأستاذة عباسية رحوي بلحسين أستاذة محاضرة بكلية العلوم الاجتماعية والنفسية في جامعة تيزي وزو، أن إنشاء خلايا استماع يشرف عليها مختصون في علم النفس والاجتماع على مستوى جميع المؤسسات التربوية، من شأنه التقليص من تنامي ظاهرة العنف داخل الوسط المدرسي، مرجعة استفحال هذه الآفة إلى اهتزاز المنظومة الفكرية والقيمية داخل المدرسة الذي أثر على وظيفتها التربوية والتعليمية، هذا الأمر كان له في المقابل آثار سلبية أخرى، بحيث أصبحت المدرسة غير قادرة على ضبط النظام الداخلي ومسايرة حركة وإيقاع التغير الحاصل اليوم في المجتمع، "لأنه من المفروض أن التربية هي الوسيلة الأنجع لمعالجة مثل هذه الظواهر السلبية، فانتشار ظاهرة العنف في أوساط التلاميذ تخمد وراءها عدة أسباب تؤدي إلى ظهورها في الوسط المدرسي، منها سوء معاملة المُعلمين للتلاميذ وعلاقتها بظهور أشكال متنوعة من سلوكات العنف". وتشير الأستاذة إلى دراسة أشرفت عليها على عينة من 120 تلميذا وتلميذة بقسم الخامسة ابتدائي خلال السنة الدراسية 2014-2015 لمحاولة معرفة وجود العنف في الابتدائيات وأشكاله، ومدى تأثيره على سلوك التلميذ ومدى تحصيله العلمي، وتمت ملاحظة أن هناك معلمين يستعملون العقاب كوسيلة علاجية لتقويم سلوك التلميذ الخاطئ سواء العقاب اللفظي أو الجسدي أو حتى المعنوي، وكل هذه العوامل لها مخلفات سلبية على التلميذ من ناحية التحصيل الدراسي للتلميذ. وترى الأستاذة أنه من الحلول الناجعة لمكافحة كل أشكال العنف في المدارس هو إخضاع كل المعلمين والبيداغوجيين إلى تكوين متخصص لمعرفة الأساليب الصحيحة، للتعامل مع التلميذ. كما تعتقد المختصة أن توظيف مختصين في علمي النفس والاجتماع في كل مؤسسة تربوية بهدف الاستماع للتلاميذ وتوجيه سلوكاتهم، بهدف الابتعاد عن كل أشكال العنف كفيل بحل إشكالية تنامي العنف وسط المدارس.