صرح وزير الاتصال السيد حميد قرين، على هامش الدورة التكوينية للصحافيين التي جرت فعالياتها بالمدرسة الوطنية العليا للصحافة ببن عكنون، أمس الأول، أن "الحكومة منسجمة ومتضامنة ومنضبطة تحت سلطة الوزير الأول السيد عبد المالك سلال. وملتزمة بتطبيق وتجسيد وتنفيذ برنامج رئيس الجمهورية السيّد عبد العزيز بوتفليقة...". تصريح وزير الاتصال هو رد صريح ومباشر على أسئلة صحفية طرحت عليه سابقا خلال زيارته نهاية الأسبوع الماضي إلى الجلفة، ثم مجددا خلال ندوة التكوين التي نشطها مدير الوسائط المتعددة البلجيكي نيكولا بيكات، بشأن تصريحات بعض الوزراء التي تم توصيفها من قبل الصحافيين على أنها "نيران صديقة". واعتبرها الرأي العام "خروجا عن المألوف" في كشف جوانب تتعلق بإثارة قضايا وملفات تحسب على وزراء سابقين أو حتى حاليين ومرتبطة بنقائص فاضحة ترجمتها بعض القرارات والتصرفات التي تناولها الإعلام والوسائط الاجتماعية والشارع الجزائري مؤخرا بشيء من "الدهشة" بل وبما يشبه الصدمة. ملفات أدرجت في خانة "الفضائح" والتلاعبات وسوء التسيير. الدهشة لا تتأتي من تفاصيل ما تحمله هذه الملفات من "تجاوزات" أو سلوكات تعكس عدم التقيّد بالقوانين واحترام الإجراءات في منح الصفقات وإبرام العقود وروائح الفساد فقط، ولكن ما جلب الاهتمام هو أن يأتي كشف المستور وتلك التصريحات على لسان مسؤولين في الحكومة نفسها. وهذا أمر لم يتعود عليه الإعلام والرأي العام على السواء سابقا. إذن نعتقد أن ما استوقف الرأي العام ليس "ثقل الملفات" التي نشرتها مختلف وسائل الإعلام فحسب، ولكن لأن هذه "الفضائح" لم تنشر بالأساليب المعروفة والمألوفة أي عن طريق التسريبات الصحفية. بل جاءت من مسؤولين مباشرين وقائمين على القطاع. كشفوا وانتقدوا على المباشر للإعلام وللرأي العام نقائص وأخطاء مسؤولين سابقين وحتى حاليين حولوا إلى وظائف ومناصب أخرى. هذا أمر غير مسبوق وغير مألوف لدى الإعلام وفي وسط الرأي العام الذي تعوّد انتظار مثل هذه التصريحات والانتقادات بعد إقالة المعنيين أي عند إبعاد مسؤول ما من منصب أو وظيفة ما. وتعوّد الرأي العام على أن غالبية من تحولوا إلى انتقاد ومعارضة الحكم والمؤسسات والنظام (في الاستعمال الشائع) كانوا جزءا منه. ومسؤولين فاعلين وموظفين في مؤسسات ذلكم النظام وهياكله وحتى قياديين بارزين في واجهة الحكم. التغييرات لم تصدر على لسان من جرفتهم التغييرات لقد تعوّدنا أن تصدر مثل هذه التصريحات "النّارية" والاتهامات القاسية على لسان من تجرفهم التغييرات الحكومية والإدارية وعقب حركات التغيير التي تمس الإدارات والمؤسسات. أي حين تتم إقالة أولئك الوزراء والولاة والمديرين وغيرهم من المسؤولين في مختلف المواقع والمناصب والوظائف... فيلجؤون إلى الإدلاء بتصريحات نارية لم يعد لها معنى في الحقيقة لأنها تدرج غالبا وتفسّر على أنها ردة فعل تعكس حالة نفسية بعد إبعاد صاحبها عن المسؤولية. وتصبح أقرب إلى منطق "تصفية الحساب" ولملمة انكسار نفسي أكثر من شيء آخر مهما كانت مصداقية وحقيقة ما تحمله من معلومات أو شهادات ومعطيات. وتدرج على أنها تصريحات سجلت في الوقت الضائع. قبل أيام توقف الإعلام طويلا. وشد القرّاء والرأي العام بتصريحات لوزير السياحة الذي تحدث عن تلاعبات ومنح قطع أرضية وتحصيصات بطرق تحايلية إلى غير أهلها فيما يعرف ب"دنيا بارك". وهي تصريحات أدرجها الإعلام على أنها انتقادات للوزير السابق. أمر دفع وزير العدل إلى التحرك تبعا لما تركه تصريح وزير السياحة من "صدمة" وطالب بتقديم الدلائل والقرائن ووثائق الإثبات إلى العدالة. وتطلبت تفاعلات الموضوع تدخل الوزير الأول، الذي أعلن أن الأخطاء تم تصحيحها وليست بالحجم الذي تناولته وسائل الإعلام. وأن الملف عولج وطوي نهائيا. ما أن طوي هذا الملف حتى خرج وزير الموارد المائية الجديد السيّد عبد القادر والي، ليتحدث عن جملة من النقائص والإرث الثقيل في مواجهة نقص السدود في مناطق بعينها، وكذا التأخر في تزويد بعض المناطق بالماء الشروب ومياه السقي. وأدرج تصريح السيّد والي، في خانة كشف "نقائص" سابقه وانتقادا غير مباشر لوزير الموارد المائية السابق السيّد نوري. قبل أشهر جرى جدال على المكشوف بين وزير التعليم العالي ووزيرة التربية حول مستوى التكوين وكذا عدد مناصب التوجيه والتكوين في المدارس العليا وفي قطاع التعليم بصفة عامة. ثم كانت "شجاعة" وزير الاتصال الذي كسر "احتكار" المعلومة. وأغلق باب "صحافة الصالونات والتسريبات الصحفية" التي استحوذت على الإشهار والأخبار سنوات طويلة. فيما كان يعرف بالكارتل على حد وصف بعض الزملاء. بلعايب واصل تكسير الطابوهات... تصريح وزير التجارة السيّد بختي بلعايب، كان الأكثر إثارة ووقعا إعلاميا وصنعا للحدث. حين كشف عن فضائح خطيرة في قطاعه. واعترف بوجود إطارات من وزارته وفي قطاعه متهمة بالرشوة. إذ ذكر أن أحد المتعاملين الاقتصاديين تمكّن من إخراج بضاعته المغشوشة من الميناء عن طريق تواطؤ من بعض إطارات وزارته ومن مصالح الجمارك. تصريح يأتي على لسان وزير في الحكومة شكّل "صدمة قوية" إعلاميا وكذا بالنسبة للرأي العام. إن حصل إجماع بشأن تثمين شفافية التصريح وشجاعة الوزير فإن الاختلاف حصل في المقاربة وقراءة أبعاده التي سنعطي قراءتنا حولها لاحقا. ما كادت أمواج وارتدادات هذا التصريح تتبدد حتى جاء تصريح مدير الاستعلامات في جهاز الجمارك السيد بوعلام مجبر، الذي كشف أن حوالي 20 مليار دج تهرب سنويا إلى الخارج منذ 2010 بطرق مختلفة. ثلاث مقاربات في تصريحات الوزراء ما سبق ذكره يمكن قراءته أو مقاربته من ثلاثة جوانب رئيسية: أولا: يجب تثمين تصريحات الوزراء السالفي الذكر وغيرهم من المسؤولين في مختلف القطاعات في كسر الطابوهات وفي تشريح أوضاع قطاعاتهم بأنفسهم من باب أنّهم الأكثر إلماما واطلاعا على تلك الملفات وتفاصيلها. هذا بالتأكيد يحول دون المزايدات والمبالغة. ويغلق باب التهويل أو إعطاء معلومات خاطئة. لأن أي علاج يبدأ بتشخيص دقيق للأعراض والنقائص. والإصلاح يبدأ أيضا بتشخيص مكامن الضعف ورصد الاختلال والنقائص لتقديم العلاج أو الحلول المناسبة، لذلك يجب تناول هذه التصريحات على فجائيتها وقوتها من منظور إيجابي. ثانيا: ما كشف عنه بعض وزراء حكومة الوزير الأول السيّد سلال، يعكس استراتيجية باتت تتبنّاها الحكومة في مواجهة التسريبات والتهريج والشائعات والقيل والقال. سيما في عصر زحف الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي. الحكومة تسحب البساط من أصحاب "أخبار الصالونات" مسعى الشفافية المطلقة الذي باتت الحكومة تعتمده في معالجة الملفات وتصويب الإعوجاج بما في ذلك ما تعلق بأعقد الملفات هو خيار مدروس. الحكومة قررت اعتماد الشفافية المطلقة ولا تريد إخفاء أي شيء على المواطنين. ربما هذا ما دفع وزير الاتصال إلى القول "إن الحكومة منسجمة ومتضامنة ومنضبطة...". تصريح يؤكد ما أشرنا إليه على أن تصريحات الوزراء الذين سلف ذكرهم ليس "انفلاتا" ولكن يندرج في استراتيجية سبق اتصالي. أي مسعى مدروس ومتفق عليه. ثم لا يوجد عاقل واحد يمكنه أن يقول بأن هؤلاء الوزراء غرّدوا خارج السرب من تلقاء أنفسهم؟!. هذا شبه مستحيل. لأن منصب الوزير يخضعه إلى الالتزام والتقيّد بالتعليمات والتوجيهات بصرامة مطلقة. وإلا تدخل الحكومة في فوضى وتهتز مصداقيتها جملة وتفصيلا. باتت حكومة سلال مقتنعة بأن إشراك الرأي العام في "المليح والحاير" جزء من العلاج، وطريقة في الحكم والتسيير الناجع. وهو ما يطلق عليه علماء النفس "العلاج بالصدمة". وما يعرفه الرأي العام ب "اللعب على المكشوف". توجه صائب ومدروس إذن، من هذا الجانب يجب دعم وتثمين مبادرة بعض الوزراء في فتح ملفات ساخنة داخل قطاعاتهم. خيار واختيار يعكس توجها صائبا وشجاعا لحكومة سلال. هو في نهاية المطاف استباق وغلق لباب التسريبات التي تعوّدنا عليها زمنا طويلا، لقد شكلت بعض الملفات المسربة فيما مضى طرقا للابتزاز ووسائل "شانطاج". لذلك فإن تطرق الوزراء إلى ملفات الفساد والتجاوزات هو سد لباب المزايدات والشائعات في زمن "الفايس بوك" أو الأنترنت والفضائيات. أن يبادر المسؤولون إلى نشر وكشف ملفات كانت من قبل محرّمة هو في نهاية المطاف تبرئة ذمّة أيضا من شبهة "التستر" أو إخفاء المعلومات. وهي جوانب منصوص عليها دستوريا بحق المواطنين والصحافيين في الوصول إلى معلومة موثوقة ذات مصدر يمكن التأكد منه. الاستغراب كما يؤكد بعض رجال الإعلام ليس في تصريحات وزراء كبلعايب ووالي وبن غبريط وحجار وقرين من قبل وغيرهم كوالي وادي سوف قبل يومين... ولكن في استغراب "المستغربين" الذين ربما لم يتعوّدوا على مثل هذه الشفافية من طرف المسؤولين. لماذا تعتبر تصريحات الوزير بلعايب "صدمة" مع أن ما كشف عنه هو الأسلوب الأمثل والأصح في التعاطي مع قضايا الفساد أو حتى مجرد أخطاء في التسيير وسوء التقدير؟!. هي أمور تحدد العدالة والعدالة وحدها درجة خطورتها ومسؤولية مرتكبيها. لذلك فإن تصريحات بختي ووالي ونوري... هي دعامة رئيسية تعطي قوة وشفافية لعمل الحكومة، هو اختيار غير مسبوق. بل طريقة تعطي للحكومة مصداقية على قياس "ما عندهاش واش تخبي". وعليه فإن تصريحات الوزراء يجب أن تدرج في خانة السلوك المسؤول والواجب الوطني، عكس ذلك هو ما يجب انتقاده. أي يكون اللوم والانتقاد في حالة عدم التبليغ والكشف. هذا التحول في ممارسة السلطة هو الذي فاجأ الإعلاميين والرأي العام على السواء وليس العكس. وهو أمر يتطلب ممارسة أطول للتمرس والتعوّد عليه. ثالثا: إن ما جاء على لسان عديد الوزراء والمسؤولين يؤكد أمرا ثابتا. وهو أن تفشّي "ظاهرة الفساد" لم يعد سرا، وحين يقدم وزراء على إثارة ملفات بهذه الأثقال فهذا يعكس رغبة التصدي وإرادة المواجهة لهذه الظاهرة، هكذا نعتقد على الأقل وندعو إليه. كما يعكس تحركهم خطورة الأمر الذي بات معلوما، وإلا لماذا أنشأ الرئيس بوتفليقة، هيئة وطنية للوقاية من الفساد؟. الوزراء لم يذيعوا سرا أو يعطونا سبقا حين كشفوا هذه الملفات علنا. لقد كان الرئيس نفسه سبّاقا عام 2011، حين دعا كل من يملك ملفات مثبتة عن الفساد والمفسدين أن يقدمها إلى العدالة دون تردد مهما كانت أثقالها وأوزان المتورطين فيها (وفهم يومئذ أن في خطاب رئيس الجمهورية إشارة إلى ما كان صرح به وزير الدولة السابق أبو جرة الذي كان أعلن أن بحوزته ملفات فساد...). أمس الأول، جدد وزير العدل حافظ الأختام السيّد الطيب لوح، قوله إن أبواب النيابات والعدالة مفتوحة أمام كل من يمتلك ملفات فساد تستند إلى الأدلة والوثائق. نريد التأكيد في الختام أن تصريحات السيّد بلعايب وزملائه الآخرين ليست "خبطات" عفوية أو غير مدروسة، ولكن تندرج في استراتيجية اتصال مفتوح وشفّاف في التعامل مع كل الملفات. هي إرادة الحكومة نفسها في اختيار هذا المسعى الشفّاف والعلني.