عصفت التصريحات الأخيرة للنجم الصاعد للحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية إيمانويل ماكرون التي صنعت الاستثناء بوصف الاستعمار في الجزائر بأنه «جريمة ضد الإنسانية»، بقانون تمجيد الاستعمار في شمال إفريقيا الذي ستحل الذكرى ال 12 لصدوره يوم 23 فيفري الجاري. كما تزامنت أيضا مع احتفال الجزائر بيوم الشهيد المصادف ل 18 فيفري، بالقول «إن الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي.. إنه جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات». هذه التصريحات التي أثارت جدلا واسعا لدى مسؤولين ينتمون إلى اليمين لاسيما المتطرف، كان لها وقع كبير على الرأي العام الفرنسي الذي أبدى غالبيته تأييده لها بنسبة 51 ٪ وفق استطلاع أجراه معهد «إيفوب»، في حين أعرب 52 ٪ من المستجوبين أنه على الحكومة الفرنسية الاعتذار عن الجرائم الاستعمارية. ماكرون صاحب ال39 عاما أدلى بتصريحات خارجة عن المألوف الفرنسي حول الجرائم الاستعمارية في الجزائر خلال زيارته الأخيرة لبلادنا، وتمسك بها خلال عودته إلى فرنسا بعد إرساله فيديو مصور إلى وكالة رويترز يتضمن بشاعة المستعمر في الفترة الاستعمارية، معلقا في هذا الصدد «يجب أن تكون لدينا الشجاعة لتسمية الأشياء بمسمياتها ولن نعيش إلى الأبد في ظلال تجربة مؤلمة للجزائر وفرنسا». يأتي هذا التطور في وقت إعتدنا على تصريحات لمسؤولين فرنسيين لم تخرج عن دائرة «التأسف»، حتى موقف الرئيس الأسبق جاك شيراك فيما يتعلق بهذه المسألة التي وصفت ب«الثورية» عندما اعترف بممارسة التعذيب في الجزائر، سرعان ما انطفأ أفلها بعد صدور قانون تمجيد الاستعمار في شمال إفريقيا خلال فترة حكمه، بالموازاة مع تقديم فرنسا اعتذارها لدول إفريقية وتقديم تعويض لها. كما أن مواقف الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي من قضية الاعتراف وتقديم الاعتذار أعادت الملف إلى نقطة الصفر مما أثر على العلاقات الثنائية، التي كادت أن تشهد نقلة نوعية في عهد الرئيس جاك شيراك، عندما كان البلدان على أهبة التوقيع على معاهدة الصداقة تتويجا للزيارة التي قام بها إلى بلادنا سنة 2003، غير أن القانون المذكور حال دون ذلك بعد رفض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة التوقيع عليها. أكثر من ذلك، محا ساركوزي كل ملامح التقارب في ملف التاريخ مع الجزائر عندما حاول أن «يقضم» من أرضية اليمين المتطرف وتحديدا من مغازلة أنصار جان ماري لوبان مؤسس حزب الجبهة الوطنية، باستبعاد أي نية للاعتراف وتقديم الاعتذار، بالقول إن الأبناء لا يتحملون أخطاء الآباء، بل ذهب بعيدا بمواقفه الاستفزازية بتنظيم تكريمات للحركى بقصر الإليزيه. هو ما دأب عليه أيضا خلفه فرانسوا هولاند الذي اختلف عنه فقط باعتماد بعض اللين في حديثه عن هذه القضية رغم خلوها من الجرأة، مكتفيا بوصف الاستعمار بالماضي المشين خلال إلقائه محاضرة بجامعة سطيف. جرأة ماكرون التي كسرت «طابو الاعتراف» في هذا التوقيت بالذات، أرادها المرشح لسباق قصر الإليزيه أن تكون رسالة إلى بعض دوائر القرار الفرنسي الرافضة إلى غاية اليوم إحداث تقارب مع الجزائر وبعث تعاون حقيقي معها بمعالجة «جراح» الماضي لتطوى نهائيا. الأدهى من كل ذلك، أن مثل هذه التصريحات التي هزّت دوائر القرار الفرنسي جاءت على لسان مرشح ينتمي لجيل لم يعايش الفترة الاستعمارية، في الوقت الذي ترى أطراف فرنسية ضرورة رحيل جيل الثورة في الجزائر كشرط لتعزيز العلاقات الثنائية وبعث التعاون، وهي رسالة أيضا مفادها أن مقترح هذه الأطراف لا يمكنها البتة إلغاء الماضي المشترك، مثلما سبق أن أكد على ذلك وزير المجاهدين الذي طالب فرنسا باتخاذ خطوة أكثر جرأة في مسألة الاعتراف. ليست هذه المرة الأولى التي يخلق فيها ماكرون الجدل حول الاستعمار، فقد سبق أن أثار جدلا في أكتوبر 2016 عندما أدلى لمجلة «لوبوان» بتصريحات مختلفة، قال حينها «نعم في الجزائر حصل تعذيب، لكن قامت أيضا دولة وطبقات متوسطة، هذه حقيقة الاستعمار. هناك عناصر حضارة وعناصر وحشية». العديد من السياسيين من اليمين ومن حزب «الجبهة الوطنية» (يمين متطرف)انتقدوا بشدة تصريحات ماكرون، مثلما جاء على لسان جيرار دارمانين المقرب من الرئيس السابق نيكولا ساركوزي والنائب عن الحزب الجمهوري (يمين) في تغريدة له «العار لإيمانويل ماكرون الذي شتم فرنسا في الخارج (بقوله) الاستعمار الفرنسي كان جريمة ضد الإنسانية». للإشارة، طالب العديد من المؤرخين الفرنسيين فيما سبق إلغاء ما أسموه بالقوانين التاريخية، وأيدهم الكثيرون في ذلك مشددين على عدم تدخل الدولة في الأمور التاريخية، حيث يذكر القانون الفرنسي العديد من تلك القوانين، مثل قانون غيسو الصادر عام 1990 القائم ضد «العنصرية وإنكار محارق اليهود - الهولوكوست»، وقانون توبيرا ضد الرق، وكذلك قانون الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن. وزير خارجية فرنسا الأسبق كوشنير: اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر هو الحل الأمثل لطي الصفحة قال وزير خارجية فرنسا الأسبق برنارد كوشنير، إن اعتراف فرنسا بجرائمها البشعة في الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية يعد الحل الأمثل لطي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة تسودها علاقات قوية واحترام متبادل بين الطرفين، مضيفا بالقول «هناك وقائع وأحداث مروّعة لا يمكن إنكارها». وزير الخارجية الفرنسي الأسبق أشار في حوار للموقع اللندني «العربي الجديد» إلى أنه قبل الخوض في تصريحات ماكرون بخصوص بلادنا «أعتقد أن إيمانويل ماكرون يمثل جيلا جديدا من السياسيين الشباب، هو سياسي منفتح وغير محسوب لا على اليسار ولا على اليمين، وبالتالي سأصوت لصالحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة». كما أوضح أنه «لا يمكن معالجة هذا النوع من الملفات الحساسة، وهذا التاريخ المثخن بالجراح والآلام» إلا عبر الاعتراف وطي صفحة الذاكرة، مضيفا أن بلاده تكيل بمكيالين في هذا الجانب قائلا «هي سنّت قانونا يجرم إبادة الأرمن»، في حين تلتف وتتهرب في كل مرة يتعلق الأمر فيها بالجزائر، وهذا راجع حسب كوشنير إلى غياب الجرأة عن بلاده وحكوماتها المتعاقبة للاعتراف بكل ما اقترفته من جرائم أثناء الحقبة الاستعمارية ، و قال لو فعلت، فأكيد أن هذا الأمر سيعمل على تحسين العلاقات بين البلدين، وسيحس أبناء الجيل الثالث والرابع من الفرنسيين من أصول جزائرية، بأن فرنسا تحترم بلد آبائهم وأجدادهم» حسب المسؤول.