تميّزت تشريعيات الرابع ماي الجاري، ببروز أحزاب فتية تمكنت من حصد عدد معتبر من المقاعد رغم حداثة مشاركتها في مثل هذه الاستحقاقات. كما تميزت أيضا بتراجع رصيد أحزاب عريقة ظلت تتصدر المشهد السياسي في البلاد منذ بداية عهد التعددية الحزبية، غير أنها اصطدمت لسوء حظها بفخاخ عديدة منها غضب المناضلين والأنصار، والصراعات الداخلية التي انتهت بانشقاقات وحالات نزوح، أثرت في وزنها السياسي وفي محصولها الانتخابي الذي أصبح مبعثرا بين التعداد الكبير للقوائم المشاركة، مثلما تشهد عليه نتائج هذه الأحزاب في الانتخابات الأخيرة. حزب جبهة التحرير الوطني ....وفاء الوعاء التقليدي جنب الانهيار اعترف جمال ولد عباس الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني بتراجع نتائج الحزب العتيد في تشريعيات الرابع ماي الجاري، معللا ذلك بتشتت أصوات الناخبين على العدد الكبير من القوائم الانتخابية المشاركة في هذا الاستحقاق. وجدد في الوقت نفسه تحمله الكامل لمسؤولية ضبط قوائم الأفلان التي كانت قد لقت انتقادات ومعارضة شديدة، وصلت في بعض الحالات إلى احتجاجات عنيفة، مثلما حدث بالنسبة لولاية الطارف إثر استبدال محافظ الذرعان عمار طلال بعضو المكتب السياسي حسين خلدون. النتيجة الضعيفة التي حققتها قائمة العتيد بهذه الولاية، التي عرفت دوما بكونها من المعاقل الكبرى للأفلان، إلى جانب ولايات أخرى، كسوق أهراس وباتنة وتبسة التي ظلت أفلانية على الدوام، لقد فشل خلدون في الظفر بمقعد في البرلمان، يعزز طرح أصحاب التحليل القائل بأن سبب تراجع حزب جبهة التحرير الوطني، مرده حالات الغضب الواسع الذي شهدتها مرحلة إعداد القوائم. فضلا عن حالات الغضب التي أفرزتها عملية ضبط القوائم، فقد تدخلت عوامل أخرى ضمن أسباب تراجع الحزب العتيد في تشريعيات 2017، حسب الملاحظين والمحللين والإعلاميين الذين قدموا مقاربات كثيرة في هذا الشأن، أبرزها أن بيت الأفلان عرف اهتزازات قوية في قياداته وأتباعهم منذ المؤتمر الثامن، أي من عهد علي بن فليس ثم بلخادم ثم سعداني وحاليا ولد عباس. لقد بات داخل الجبهة لكل أمين عام أتباعه وأنصاره الأوفياء. ثمة عامل آخر يربط ترتيب القوائم الذي سبقت الإشارة إليه، في توجيه الكثير من المناضلين الذين لم يعجبهم ترتيبهم أو لم يكونوا راضين عمن تصدر تلك القوائم، ورفض التصويت لصالح الحزب، كما حدث في قسنطينة التي خرج فيها الحزب بمقعدين فقط، رغم أنها كانت تعتبر مركز نفوذ للأفلان. لكن رغم كل الاهتزازات والارتدادات وتغيير القيادات إلا أن الأفلان حافظ على المقدمة ورتبته الأولى في الانتخابات التشريعية، بفضل وعائه الوفي، حيث يحظى الحزب دائما بتزكية وولاء غير مشروط من طرف فئة المجاهدين والأسرة الثورية والهيئات التنظيمية داخل مؤسسات الجمهورية، وكذا المناضلين الراسخين في قسماته وخلاياه وأيضا الزخم كبير من التنظيمات المنبثقة عنه سواء من الفلاحين أو العمال أو الطلبة.. جبهة القوى الإشتراكية ....انعكاسات مرحلة جديدة ورحيل الأوزان تراجع حزب جبهة القوى الاشتراكية الأفافاس في تشريعيات الرابع ماي الجاري ب7 مقاعد مقارنة بتشريعيات 2012، (نال فيها 21 مقعدا). هذا التراجع أثار الكثير من التساؤلات وحتى الصدمة في وسط أنصار الحزب وأتباعه وخارجه، بصفته أول حزب سياسي معارض في الجزائر له تقاليده وحضوره وديباجته السياسية، لا سيما وهو يرتبط في أذهان الجزائريين بشخصية تاريخية تتمثل في المرحوم حسين أيت أحمد، وكذا فيما يتمتع به من تجديد لاطاراته وتشبيب دوري لقياداته وأسلوب القيادة الجماعية التي يكرس من خلالها التداول على رئاسة الحزب. «انتكاسة» المحصول الانتخابي للأفافاس في تشريعيات الرابع ماي 2017، يمكن فهمها بأن الحزب يمر حسب التعبير الرياضي «بفترة فراغ» ناجمة عن بداية مرحلة ما بعد «الدا الحسين» الذي غادرنا منذ أقل من سنتين. وعليه فإن ارتجاج البوصلة السياسية للأفافاس بسبب هجرة وإبعاد الكثير من قياداته الشابة التي انشقت وأسست أحزابها، بداية من مغادرة سعيد خليل في التسعينيات ثم جماعة بوعكوير وجداعي وطابو والآخرون، وصولا إلى جمال زناتي الذي تم استبعاده مؤخرا.. كل هذه الأوزان التي خرجت من بيت الأفافاس، جعلت الحزب يدخل التشريعيات بشكل غير مستقر في داخله حتى لا نقول بصف مشتت، خاصة في ظل وجود عدد من المناضلين غير الراضين عن التوجهات والخيارات التي تبناها الحزب في الفترة الأخيرة بما فيها خيار المشاركة في التشريعيات. يكفي أن نعلم بأن السكريتير الوطني الأول للحزب عبد المالك بوشافة الذي قاد قائمة الأفافاس بقسنطينة، لم يفلح في العبور إلى قبة البرلمان، ليؤكد هذا الطرح، ما يعتبر برأي المتتبعين صدمة قوية بالمفهوم السياسي، لاسيما في ظل نجاح عدد معتبر من قادة الأحزاب العريقة الأخرى في هذا الاستحقاق. التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ... وعاء منقسم بين الغريم والمنشقين ثمّن رئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية محسن بلعباس في معرض رد فعله عن الانتخابات التشريعية، النتائج المحققة من قبل حزبه في هذا الاستحقاق، بحصوله على 9 مقاعد من أصل 11 قائمة انتخابية دخل بها التشريعيات. غير أنه لم يخف غضبه مما وصفه بالجو العام الذي ساد هذه الانتخابات، والذي وصفه بغير المشجع على ترقية الديمقراطية في البلاد. ويبدو أن محسن بلعباس الذي تمكن من تجديد الخطاب داخل حزبه بنظرة جديدة أكثر براغماتية بعيدة عن التشدد والأحكام الجاهزة، دفع فاتورة غياب حزبه منذ أزيد من 5 سنوات عن المشاركة في مثل هذه الاستحقاقات، مما فتح المجال لبروز تيارات أخرى وأحزاب جديدة وقوائم حرة تقتسم معه وعاءه الانتخابي المعهود، مع تمكن غريمه من انتزاع ما تبقى من ذلك. فالفائز بالقائمة الحرة «بديل المواطنة» بتيزي وزو نور الدين أيت حمودة كان قياديا في الأرسيدي، وكذلك عمارة بن يونس زعيم الحركة الشعبية الجزائرية التي نالت 13 مقعدا في هذا الاستحقاق. غير أن الأرسيدي حتى وإن تراجع حصاده في التشريعيات، بتقلص عدد المقاعد التي سيحتلها في الغرفة البرلمانية السفلى، إلا أن عودته إلى قبة البرلمان ستكون منطلقا ومنبرا لإبلاغ أفكاره ورسالته ومن ثمة التحضير للعودة عبر بوابة الانتخابات البلدية والولائية المقررة في أكتوبر القادم. حزب العمال ... تأثيرات الخطاب العام والخلافات الحديثة انخفض حصاد حزب العمال في التشريعيات التي انتظمت الخميس المنصرم ب6 مقاعد، بنيله 11 مقعدا مقارنة ب17 مقعدا تحصل عليها في 2012، ما أثار صدمة قوية داخل الحزب ترجمتها الأمينة العامة للحزب في غضب معلن، إلى درجة التشكيك في العملية الانتخابية برمتها والقول بأنها «زوّرت لصالح الأفلان». في انتظار أن تقدم السيدة حنون طعونها واعتراضاتها على العملية وتكشف بالأدلة والوثائق التي تبرر اتهاماتها، فإن المحللين والمتابعين للشأن السياسي قدّموا تفسيرات أخرى لسقوط حزب العمال، منها أن هذا الحزب الذي له نكهته وحضوره المميز في البرلمان أو خارجه بأسلوب معارضته ومقاومته المستمرة، مازال يتبنى خطابا تقليديا، لا يساير المرحلة الحالية ولا التوجهات الكبرى، سواء في الجزائر أو في العالم برمته. إن التوجه الجديد للجزائر من خلال رئيسها وحكومتها هي الدعوة إلى نموذج اقتصادي جديد أكثر انفتاحا على الاقتصاد الحر، يواكب التحولات التي يشهدها العالم من حولنا في ظل أزمة اقتصادية خانقة. يكفي أن نلاحظ ونرصد تلك التحولات المتسارعة في الاقتصاد الروسي أو الاقتصاد الصيني على الخصوص، والذي انتقل من مرحلة الاقتصاد الاشتراكي الموجه إلى انفتاح مكّن الصين أن تصبح العملاق الاقتصادي الثاني في العالم. المسعى نفسه تبنته عديد البلدان الأخرى التي كانت تدرج في خانة القطب الاشتراكي والشيوعي، على غرار الفيتنام وبلدان أوروبا الشرقية كرومانيا وبلغاريا والمجر وعدد من دول أمريكا اللاتينية، ومؤخرا إثيوبيا التي بدأت تشق طريقها نحو الانفتاح الاقتصادي بنجاح ملفت حتى أصبحت إثيوبيا اليوم وفي ظرف قصير القوة الاقتصادية الخامسة في إفريقيا. أردنا من هذا الاستطراد أن نبين أن التوجهات التي ترافع من أجلها السيدة حنون وحزبها لم تعد تواكب الطموحات والانشغالات العالمية نفسها، فعندما تهاجم حنون رجال الأعمال والمال والخوصصة بصفة عامة، وتحملهم كل ذلك مسؤولية الكوارث والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهي بالتأكيد تخسر ود الطبقات الشغيلة المنتمية للقطاع الخاص. فهؤلاء يحسون أنهم مهدّدون في عملهم وخبزهم وهم العاملون لدى القطاع الخاص، بل أكثر من ذلك أصبحوا يشكلون النسبة الأكبر والمتزايدة في عدد العمال في الجزائر. الجانب الثاني الذي يكون قد أثر في حصاد حزب العمال لتشريعيات 2017، حسب المراقبين، يرتبط بالأزمات الداخلية التي عرفها الحزب في الفترة الأخيرة، والتي شكلت أيضا إضعافا لقوة التواجد والحضور في مثل هذه الاستحقاقات والرهانات الانتخابية. من ذلك الخلاف بين حنون والنائب السابق عن الحزب سليم لباطشة يكون برأي المتابعين، قد فوت أعدادا معتبرة من الأصوات لصالح حزب العمال خلال هذا الاستحقاق، وذلك لما للرجل من أتباع خاصة داخل فيدرالية النقابات الفلاحية التي يرأسها. أحزاب التيار الإسلامي ...حسابات مبعثرة في تحالفات غير مستقرة وانشقاقات مستمرة توحي القراءة الأولى للنتائج التي تحصلت عليها أحزاب التيار الإسلامي في تشريعيات الرابع ماي الجاري، بأن هذا القطب فقد مكاسبه السابقة وتراجع في عدد المقاعد المحصل عليها في السابق، لكن بتحليل متأن يتجلى بأن هذا التيار الذي أعاد تشكيلة تحالفاته في التشريعيات الأخيرة، حصل على نتيجة منطقية مقارنة بتطورات الأحداث التي ميزت حياته السياسية. مبدئيا الإسلاميون كقطب سياسي، لم يخسروا ترتيبهم الثالث في المشهد السياسي في الجزائر، بالرغم من اختلاف تسميات التشكيلات المتحالفة من تكتل الجزائر الخضراء في 2012 إلى تحالف «حمس»، و«اتحاد النهضة والعدالة والبناء» في 2017. كما أن ما يسميه البعض تراجعا في المحصول الانتخابي للتيار ككل من 58 مقعدا إلى 49 مقعدا (ناقص 9 مقاعد)، لا يمكن اعتباره خسارة كبيرة، بالنظر إلى الانشقاقات التي عرفها هذا التيار بعد 2012 وخاصة، بخروج عمار غول الذي كان قد حقق نتائج معتبرة في قائمة تكتل الخضراء بالعاصمة في تشريعيات 2012، وتشكيله لحزب «تاج» الذي ظفر بالمرتبة الخامسة في تشريعيات الرابع ماي ب19 مقعدا. من هذا المنطلق، يمكن القول بأن المؤشرات والتحاليل المسبقة التي كانت تعطي لأحزاب القطب الإسلامي توقعات بأن يتجاوزوا 100 مقعد في هذه التشريعيات، لم تجانب الحقيقة بشكل كبير، بالنظر لما حصلوا عليه فعلا في هذه التشريعيات إذا أضفنا لهم محصول المنشق عمار غول، وكذا بعض القوائم التي تقدمت تحت قبعة الأحرار وأولئك الذين التحقوا بأحزاب أخرى ومنها على الخصوص الحزب العتيد، لذلك لا نعتقد أن الإسلاميين تراجعوا بشكل ملفت أو مفزع مثلما يقول بعضهم.