يدخل الفنان المهندس محمد لراشيش عوالم غامضة ومتقلبة ومبهمة، تسكن فيها النفس البشرية وتعكس ما بداخلها من أسرار ومعجزات، وبإمكانيات فنية صلبة تمكّنه من الدخول إلى «الدماغ» البشري كي يرصد ما بداخله من مكنونات، فهو فنان متعدّد المواهب والاختصاصات، ويكفي أنه متمكّن من 7 لغات أجنبية، ويعشق البحث والاستكشاف. التقت «المساء» الفنان في معرضه الذي تمتد فعالياته حتى السادس أكتوبر الجاري بالمركز الثقافي «مصطفى كاتب»، حيث راح يتحدّث عن أعماله الجديدة التي حملت رؤى معمّقة لمواضيع وتساؤلات فلسفية واجتماعية متشعّبة، ويحمل المعرض عنوان «بصمة دماغ»، وأغلب ما تتضمّن لوحاته خطوطا متشابكة وعصيبات، مع حضور بعض اللوحات التي قدّمها في معرضه الأوّل سنة 2015 برواق «عائشة حداد» ضمن معرضه «هذه فلسفتي». يتضمّن هذا المعرض 54 لوحة تتوزّع على سطحها الألوان الحارة والباردة. ويُعتبر امتدادا طبيعيا لمعرض «هذه فلسفتي». كما أنّ أغلب اللوحات أُنجزت بعد المعرض الأوّل، وهي حصيلة مشواره الفني الذي بدأ بالجهد والمثابرة وبقلم الرصاص والألوان. وبالموازاة مع ذلك استطاع محمد أن يجتهد في دراسته، ليتخرّج من الجامعة كمهندس في اختصاص الميكانيكا، وهنا يقول: «الرسم أمر مهم لا يقتصر فقط على المجال الفني المحض، بل يحضر في كلّ الاختصاصات منها الهندسة والطب وغيرهما، ونحن غالبا ما لا نرسم من فراغ». فيما يتعلّق ب «بصمة دماغ» فالأمر يتمحور حول هذا الكائن العجيب، خلق الله الذي أبدع كلّ شيء، ويشبّهه محمد بالآلة التي لا تكلّ ولا تملّ، له سلطة التحكّم في كلّ أعضاء الجسم يسيّرها كيفما يشاء، وليس لها إلاّ الطاعة والانسياق بدون نقاش أو تردّد، وهذا الدماغ لا يمارس سلطته من فراغ، بل له أفكار وأحاسيس وطاقة، كما أنّه صندوق توضع فيه الذكريات والحكايات والصور بكلّ ما مرّ بها من ألم وأمل وفرح، ولا يملك الإنسان سوى تسجيلها والمحافظة عليها كي لا تضيع منه. يشير محمد إلى أنّ المعرض قدّم أعمالا تحضر بها الخبرة واللمسة الجمالية المكتسبة من خلال الحياة والمجتمع والقناعات، وبذلك بدت أعماله أكثر نضجا مقارنة بالمعرض السابق، فتتزاحم في لوحات هذا الفنان الخطوط والحركات منها المستقيمة والعبثية والمائلة وغيرها. كما تبدو في لوحات أخرى العيون بارزة أكثر من أعضاء أخرى؛ كالرجل والفم، وهنا يفسّر الفنان بأنّ ذلك متعلّق بموضوع الاتّصال الذي يبدو مفقودا في مجتمعنا حتى من خلال لغة الكلام، فالجميع يتكلّم والجميع لا يحسن فهم بعضه، لذلك ركّز على العيون التي هي نوع من التواصل الهادئ والممكن، خاصة في إيصال الرسائل. بالنسبة للتقنيات يؤكّد الفنان أنّها بسيطة، علما أن طقوس الرسم عنده عادية وعفوية، فقد يرسم وهو مستلق على الأرض أو في أيّ موضع آخر، وبمجرد الشروع في الرسم يدخل محمد لراشيش مرحلة اللاوعي بعد أن يشحذ مسبقا كلّ أفكاره وطاقاته، ليخرج منها مولوده الجديد الذي يقول عنه «إنه مولود عليه أن يخرج». يسرد الفنان تفاصيل مرحلة الرسم: «بداية أحضّر اللوحة، ثم أنفصل عن الواقع بعفوية وأترك الدماغ يشتغل، أنجز الخلفية، ثم الحركات، وعندما أفرغ من الشكل العام للوحة أرتاح، وبعدها أعود إلى التفاصيل والرتوشات. وأشبّه المرحلة الأخيرة بالماكياج الذي تنتظره اللوحة لتبدو أجمل، وأخيرا تتم المراجعة العامة للوحة، لتخرج بعدها للعلن». عن الخطوط الرفيعة المنتشرة باللوحات أكّد الفنان أنّه ترك الحرية المطلقة للجمهور كي يقرأها كما يشاء بأحاسيسه ونظرته الخاصة. أما الفوضى الموجودة ببعض اللوحات فهي تعكس عالم الدماغ؛ حيث تعمّ فوضى الأفكار والمشاعر بداخله. عن الألوان فتوجد الزيتية والمائية وأيضا الأكريليك ومواد أخرى للتزيين وفي بناء اللوحة، وهناك لوحات مرسومة على القماش وأخرى على الورق والخشب أيضا، إضافة إلى لوحات بالأبيض والأسود، وهي جزء من ماضي الفنان ومن معرض «هذه فلسفتي»، تنبعث منها خطوط نابعة من الدماغ لتكتبها اليد، تعبّر كلّها عن شخصية الإنسان رغم حملها لغة مبهمة. للتذكير، الفنان ابن مدينة خميس مليانة وله إصدارات في عالم الشعر، من ذلك كتابه «سأروي لكم قصة»، إضافة إلى تخصّصه في عالم التصميم والأنفوغرافيا ومن مؤسّسي جمعية «الفكر والإبداع الثقافي».