إصلاح البلدان المستضعفة يتطلب قواعد أكثر شفافية وأكثر إنصافا ألقى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة أمس ،السبت، كلمة بمناسبة ندوة "تمويل التنمية" بالدوحة (قطر) وفيما يلي نصها الكامل: "باسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين سيادة الرئيس، أصحاب الفخامة والدولة رؤساء الدول والحكومات، أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة. دعوني أتقدم بداية بأجزل عبارات الشكر لسمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على كافة دلائل الاحتفاء التي حظينا بها أنا والوفد المرافق لي منذ حلولنا بهذا البلد الشقيق. ولا يفوتني أن أشيد بمعالي الأمين العام لمنظمة الأممالمتحدة وما بذله من مبادرات من أجل تجسيد قرارات توافق مونتري Monterrey وبعث تعاون دولي من أجل التنمية مبني على أسس جديدة. إن لقاءنا اليوم بالدوحة ليشهد على حرص دولة قطر على المساهمة الفعالة في تعزيز التعاون الدولي من أجل التنمية، كما أنه يقيم الدليل على ما توليه من اهتمام للقضاء على الفقر وتوزيع فوائد العولمة توزيعا أفضل. إن اجتماعنا اليوم إذ يأتي في ظرف ما يزال العالم يتعرض فيه لرجات أزمة مالية لا قبل له بها منذ سنة 1929 ينبغي له أن يتناول بالدراسة تلكم المسألة الحساسة المتمثلة في تمويل التنمية، كما لا يمكنه أن يغض الطرف عن الحاجة الملحة إلى تعهد النظام المالي الدولي بالإصلاح في العمق الإصلاح الذي يحتل موقعا بارزا في توافق مونتيري الذي أوكلت لنا مهمة إعادة النظر فيه هاهنا بالدوحة. إن بيان مونتيري رغم ما شابه من مواطن الضعف ومن نقائص كان محطة متميزة للحوار الدولي من أجل التنمية. ذلك أنه ولأول مرة اهتدت الدول المصنعة والدول النامية والهيئات الدولية ومؤسسات القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني إلى نهج موحد للخروج من الجمود واتفقت جميعها على تشخيص واحد وعلى عدد من التدابير لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية قبل سنة 2015. وعلى صعيد آخر، أقرت المجموعة الدولية بأنه فضلا عن التدفقات المالية الخاصة لا سيما منها الاستثمارات الأجنبية المباشرة لا بد أن تكون المساعدات العمومية الموجهة للتنمية مصدرا رئيسا لتمويل التنمية وذلك في إفريقيا بوجه خاص. وكما لا يخفى على أحد فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة ليست مقصورة على عدد محدود من البلدان فحسب بل إنها تخص عددا محددا من قطاعات النشاط أيضا. وذلك ما جعل المساعدات العمومية الموجهة للتنمية تشكل إسهاما أساسيا بالنسبة للبلدان التي تواجه تحديات متعددة في مجالات المنشآت القاعدية ومكافحة الفقر والتعليم والصحة وحتى التغيرات المناخية منذ بضع سنوات. وقد فتحت ندوة مونتيري تحت عنوان مصادر التمويل المجددة السبيل أمام تقديم مساهمات مالية موجهة لخدمة التنمية. غير أن هذه المساهمات لن تحقق النجاعة المطلوبة ما لم تكتس صفة موارد إضافية ذات بال لا صفة البديل عن مصادر التمويل التقليدية. هذا و تم وضع آلية متابعة رفيعة المستوى لتقويم الأشواط المقطوعة وتشخيص العراقيل وتجديد النشاط دون إغفال الأهداف التي تم تحديدها عند البداية. سيادة الرئيس ها نحن نلتقي سبع سنوات بعد ذلكم العهد لتقويم النتائج التي أفرزتها وعود مونتيري. لنقر أولا بأنه تم إحراز بعض التقدم فيما يخص تدفقات التمويل الخاص باتجاه الدول النامية وفيما يخص المساحة المعتبرة التي أضحت تشغلها التدفقات التجارية الصادرة عن الدول النامية في التجارة العالمية والدور المتنامي للتعاون بين بلدان الجنوب والزيادة المعتبرة في حجم المساعدات العمومية على التنمية التي تقدمها البلدان النامية الصاعدة. ومع ذلك ما زالت وعود المجموعة الدولية في مجال المساعدات العمومية على التنمية بعيدة عن تحقيق الهدف المنشود. ولئن كان يتعين توخي الجودة والفعالية من هذه المساعدات فإنه لا ينبغي التقليل من أهمية زيادتها بقدر معتبر، وهذا حتى يتسنى لنا الاقتراب من تجسيد الأهداف الإنمائية الدولية. إن فشل مفاوضات دورة الدوحة التجارية يلحق في المقام الأول الضرر بالبلدان الأكثر هشاشة التي بدأ تطلعها إلى ولوج منتوجاتها أسواق البلدان المتقدمة يتضاءل يوما بعد يوم. وبخصوص هذه النقطة بالذات لا يسعني إلا أن أجدد التشديد على ضرورة تسهيل التحاق البلدان النامية بمنظمة التجارة العالمية البلدان التي هي بصدد التفاوض للانضمام إليها أملا في التوصل إلى نظام تجاري دولي يشمل الجميع ويراعي الإنصاف وعدم التمييز. والحقيقة أن دمج البلدان النامية ضمن الاقتصاد العالمي هو السبيل الوحيد لتمكينها من الاستفادة من منافع العولمة لكن الدمج هذا طال انتظاره. بل إننا نخشى ألا تجني بعض البلدان الأكثر ضعفا والأشد حرمانا من العولمة سوى آثارها السلبية. من ثمة بات من الأهمية بمكان أن تتجند المجموعة الدولية كي لا تكون الأزمة الحالية -- و هي أزمة مالية واقتصادية -- مدعاة لابتعادها أكثر عن الأهداف المرسومة في مونتيري وبصفة أعم سببا لعزوفها عن الوفاء بالتزاماتها في مجال دعم التنمية. سيادة الرئيس إننا نأمل أن تكون الأزمة التي نمر بها اليوم بالنسبة لكل بلدان العالم فرصة للتقدم نحو نموذج جديد للعلاقات الاقتصادية الدولية. إننا بلا ريب بحاجة إلى تصور جديد لهذه العلاقات تصور يأخذ في الحسبان التحديات الجديدة التي تطرحها العولمة والتنمية المستدامة. كما أننا في حاجة إلى تصور جديد لهذه العلاقات يأخذ في الحسبان مقتضيات التبعية المتبادلة وضرورة تعزيز تصريف الاقتصاد العالمي الشامل وهذا من حيث إن منظومة بروتن وودز Bretton Woods تنتظر الإصلاح منذ فترة طال أمدها. وقد أظهرت هذه المنظومة التي قلما أصغت لانشغالات البلدان النامية عجزها عن التصدي للمضاربة الفاحشة. لقد فضحت الأزمة المالية غير المسبوقة التي نشهدها اليوم نقائص النظام المالي الدولي الراهن، و قد زج بعد شح القروض الموجهة للاقتصاد الناجم عنها بالبلدان الغنية في دوامة ركود لا تتحكم لا في معالمه ولا في أمده بل ولا حتى في آثاره. غير أنني أعتقد أن الجميع متفق انطلاقا من تفكير يتوخى وضع نظام مالي دولي مجدد على عودة البنوك إلى دورها الأصلي المتمثل في تمويل الاقتصاد لا في المضاربة. كما يجب أن يكون لعملية رفع الضوابط حدود لا بد منها لضمان النجاة من العواقب. ينبغي من جهة أخرى تعزيز دور صندوق النقد الدولي من حيث هو أداة مراقبة تتوخى إتقاء أزمات أخرى وأداة ضبط وتنظيم. ومن المحبذ أن يخصص الاتفاق الذي نريد التوصل إليه للبلدان الصاعدة والبلدان النامية نصيبا من المسؤولية في اتخاذ القرارات و في مراقبة التنفيذ. لذا لا بد لهذا البناء المنشود أن يتم في كنف الشفافية والتضامن والديمقراطية. ذلك أن الاجتماع الذي ضم قبل أيام مجموعة العشرين بواشنطن مهما كان مفيدا وحتى ومهما شكل خطوة في الاتجاه الصحيح يظل دون متطلبات تمثيل الأطراف الذي تقتضيه خطورة الوضع وأهمية الرهانات بالنسبة للمجموعة الدولية برمتها. فليس من المعقول مثلا أن يكون التمثيل الأقل ضمن هذه المجموعة من نصيب القارة الإفريقية والعالم العربي. سيادة الرئيس إن القارة الإفريقية رغم القدرات الهائلة التي تزخر بها ما تزال تمثل نسبة ضئيلة من الناتج الداخلي الخام في العالم. إنها تستقطب أقل من 1 ? من الإستثمارات الأجنبية المباشرة ولا تسهم في التجارة العالمية سوى بنسبة 1,5 ? وتعاني من تأخر كبير في مجال المنشآت القاعدية والتربية والصحة. كل هذا يجعل رأيها أساسيا في تصور التصميم المقبل للنظام المالي الدولي هذا إن كان المراد والمبتغى هو أن يكون هذا النظام نظاما عادلا ومنصفا. على صعيد آخر لا ينبغي أن تلهينا الأزمة المالية الحالية عن الوفاء بما تعهدنا به في إطار بروتوكول كيوتو Kyoto، ولا أن تدفعنا إلى اتخاذ إجراءات حمائية. فالتحديات التي تطرحها ظاهرة الإحترار في العالم تكتسي من الأهمية والخطورة ما يفرض علينا تفادي البقاء تحت رحمة الأزمة المالية الحالية مهما كانت شدتها. إنه لا مناص لنا من الإضطلاع في الآن نفسه بالمهمة الصعبة المتمثلة في وضع نظام مالي قابل للبقاء ويرضي الجميع وفي الوفاء بتعهداتنا في مجال البيئة. وقد يكون نزوعنا إلى الإجراءات الحمائية شديدا في زمن الأزمة هذا، كما أن احتمال نشوب حرب تجارية لا رحمة فيها تعيدنا القهقرى عقودا عديدة أمر جد وارد. إن البلدان النامية وخاصة الإفريقية منها ما فتئت تنتظر من البلدان المصنعة منذ أمد بعيد انفتاحا أكبر لأسواقها ودعما أقل لمنتجاتها الزراعية. سيادة الرئيس إننا اليوم كعهدنا منذ ثلاثين سنة خلت نكافح من أجل علاقات دولية أكثر عدلا وإنصافا، ونحن ما زلنا على يقين من أن رهان التنمية المستدامة يطرح نفسه على المجموعة الدولية اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن إصلاح حال البلدان المستضعفة لا يتم بداهة بإفقار البلدان الغنية بل يكفي ابتكار قواعد أكثر شفافية وأكثر إنصافا وتضامنا تعود بالنفع العميم على الجميع."