مازال الجرح الفلسطيني ينزف في وجدان كلّ جزائري، ومازال الاستقلال في نظر كثير من الجزائريين لم يكتمل وفلسطين تتقلّص أرضا وتتمدّد جرحا، ومازال ذراع سيدي بومدين يقطر دما ويبحث عن طريق تؤدي إلى غزوة ينال من خلالها الشهادة دون حاجز أومعبر..مازال كلّ حاج جزائري يحلم باليوم الذي يحجّ فيه ويقدّس مثلما كان حجّ أجدادنا الذين يضربون في الأرض على أقدامهم من أجل الأقصى الشريف مسرى النبي وخاتم المرسلين. هي ذي فلسطين في وجداننا من قبل أن تعلو الشمس جبين الأوراس، ومن قبل أن يغسل الثلج جراح جرجرة، كان الدم الجزائري يعبر من خلال غزة يا صلاح الدين، وكان سيدي بومدين يرابط في قلب السماء، ومن هناك يمدّ ذراعه ليرفع أطفال غزة ويطير. ابن باديس يلوّح ببرنسه الأبيض إلى الذين يرحلون وهو يكتب وصيته الأخيرة "فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب"، وهو الذي قال في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي "ما دام الصهيونيون يقبضون على ناصية القوّة والمال، والمسلمون يقبضون على ناصية الاحتجاج والأقوال فيا ويل فلسطين من الذين يتكلّمون ولا يعملون"، ويبقى ابن باديس يعيش القضية إلى يومنا هذا بفكره الفاحص وببصيرته التي رأت الكلام كثيرا والفعل معدوما وكأنّه يستحضر في مقولته هذه ما قاله هارون الرشيد في رسالة إلى ملك الروم "من هارون الرشيد إلى كلب الروم الذي تراه أكثر من الذي تسمعه". أمّا الإمام البشير الإبراهيمي رحمه الله، فقد عبّر عن فلسطين وكأنّه يشهد مأساة اللحظة الراهنة في غزة حين يقول مخاطبا فلسطين "يا فلسطين إنّه في قلب كلّ مسلم جزائري من قضيتك جروحا دامية، وفي جفن كلّ مسلم جزائري من محنتك عبرات هامية، وعلى لسان كلّ مسلم جزائري في حقّك كلمة متردّدة: "فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون من وطني العربي الصغير"، في عنق كلّ مسلم لك -يا فلسطين- حقّ واجب الأداء، وذمام متأكّد الرعاية". هكذا كان موقف القادة من الجزائريين الذين ينيرون طريق الأمة في أحلك الظروف وأشدّها قسوة، ولم يخنقوا كلمة الحق في صدورهم، ولم يمرّنوا ألسنتهم استكانة الذل، وصمت الذهب، بل كانت أصواتهم عالية عاتية يسبقها الفعل والصدق والإيمان، ومازالت كلمة الجزائر لا تجري إلاّ في مجرى الحرية والحق.