الإسلام اعتنى بالفرد، بل جعل منه مركز الاتكاء والتشييد، والقاعدة التي يبنى على أساسها المجتمع كله، إذا صلح الفرد صلحت الجماعة، والفرد في ثقافتنا هو المسؤول عن أفعاله وأقواله، فمن يعمل مثقال ذرة من خير أو شر يجاز عنهما الجزاء الأوفى، ولعظمة وخطورة وثقل مسؤولية الفرد عن كل صغيرة وكبيرة عظمت رحمة الله سبحانه وتعالى، وكانت فاتحة سور كتابه، وفاتحة كتابه ضامنة القرآن الكريم كله، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر اسمه لتكون الرحمة والتي هي صفة من صفاته ترد في المرتبة الثانية بعد اسمه (الرحمن الرحيم)، وفي سورة الفاتحة بعد أن يحمد الله سبحانه وتعالى ذاته الكريمة بالربوبية على العالمين المبنية على الرحمة (الرحمن الرحيم)، هذه الرحمة التي ألزم بها الله ذاته العلية وجعلها صفة من صفاته ألزم بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلها صفة من صفاته، بل مدحه بها إذ قال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وقوله: (رحمة للعالمين). التسامح علامة مميزة من علامات الإسلام الحنيف، وإن سبق وذكرنا الرحمة فذلك لعلاقتها بهذه الميزة العظيمة، فلم يتميز بها رسول الرحمة في الحياة الدنيا فقط، بل في الآخرة، حيث ننتظر شفاعته عليه الصلاة والسلام رغم تكاثر أخطائنا وعظمة ذنوبنا، إلا أنه هو الرحمة التي يرحمنا بها الرحمن. ونحن علمنا الإسلام على لسان نبيه ومن خلال أفعاله عظمة المسامحة، لأنه عليه الصلاة والسلام يطبق ما يقوله ولا يناقض قوله عمله، فقد قالت أمنا عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاقه: "كان خلقه القرآن" وتحضرني هنا قصة إسلام الشاعر العربي الكبير كعب بن زهير بن أبي سلمى الذي تعرض لرسول الله في شعره وأذاه حتى أهدر رسول الله دمه، وعندما علم أخوه المسلم بهذا الحكم حثه وألح عليه في الإسراع إلى الإسلام، فجاء كعب المدينة متنكرا خائفا ودخل المسجد النبوي الشريف وقال قصيدته المطولة الموسومة ب (بانت سعاد) والتي عرفت فيما بعد باسم البردة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ألبسها له وعفا عنه وسامحه، وأصبحت البردة في الأدب العربي نموذجا لمدحه صلى الله عليه وسلم، فقد انتهج نهجها الإمام الشاعر البصيري في قصيدة مطولة سماها (نهج البردة) مطلعها: "أمن تذكر جيران بذي سلم " وقد اقتفى أثره أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة مطولة رائعة سماها: "نهج نهج البردة" ومطلعها "ريم على القاع بين البان والعلم .... أباح سفك دمي في الأشهر الحرم" كما أن التسامح في الإسلام لا يمكن حصره في المجلدات الضخمة، لأن الإسلام كله عبادة وسلوك مسامحة ومعروف وخير، فالفرد مسؤول عن كل ذرة عمل يعملها أمام ربه، ولهذا مطلوب منه أن يكون متسامحا حتى يأتي الله بقلب سليم وعمل أجر عظيم حتى تشمله رحمة الرحمن الرحيم.