يستضيف رواق الفنون محمد راسم بالعاصمة إلى غاية 26 سبتمبر الجاري، معرضا تشكيليا للفنان عبد الحميد صحراوي، بعنوان "الفن من خلال التاريخ... تاريخ الرسومات الصخرية من الطاسيلي إلى يومنا". ويستلهم هذا الفنان إبداعاته من الطبيعة الصحراوية الضاربة في التاريخ الإنساني، ومن خلال الحفريات والآثار التي لا مثيل لها، والتي هي قطع فنية في حد ذاتها. يقدّم الفنان التشكيليي عبد الحميد صحراوي برواق محمد راسم، عشرات اللوحات المتنوعة، التي تكاد الواحدة لا تشبه الأخرى رغم مضمونها الواحد، المشبّع بمفاتن الصحراء الجزائرية. وتجهز اللوحة بمعالم من التاريخ العريق، ومن الآثار ومناظر الصحراء، لتتحول إلى ركن متين في متحف قديم، يروي لزواره ثراء هذه المنطقة، التي لا أول ولا آخر لشساعتها. وتنوعت اللوحات من حيث المناطق؛ فمنها ما عرضت نقوش التاسيلي السحيقة، وهي أول إبداع في تاريخ البشرية. ومن يراها يقول إنها رُسمت منذ سنوات قليلة؛ حيث تجلت فيها الرشاقة والمعاني والأصالة، كما أنها دليل على حقبة جيولوجية تقدَّر بآلاف السنين. وهناك أيضا التراث العمراني المختلف من مدينة إلى أخرى ومن الحضر للبوادي، لتطل عروس الصحراء غرداية، بتخطيطها المبهر، وبقصورها الخمسة الشهيرة. وتُعرف غرداية بعمرانها وقصورها المتعددة، منها قصر غرداية، وبنورة وبني يزقن والقرارة وبريان وتاجنينت (العطف) ومليكة، وأغلبها محافظة على طابعها العمراني طيلة هذه القرون، وعلى نظامها الاجتماعي. ورغم اختلاف هذه القصور في شكلها الهندسي فإنها تتشابه في طابعها العمراني؛ حيث يكون المسجد في مدخل المدينة، وبعده تأتي المنازل؛ الأمر الذي يجذب كل سائح ورسام. أما سوق كل قصر فيقع خارج المدينة. ومن كل ذلك يجتهد هذا الفنان في استغلال هذه الكنوز، التي ترصع التراث الجزائري، لتتجلى أفكار تثري لوحاته الفنية؛ مثل اشتغاله على صورة الرجل الصحراوي أو التارقي المعروف باسم "الرجل الأزرق"؛ نسبة إلى لون لباسه الأزرق الداكن. وقد استغل الفنان صحراوي هذا اللون الرمز، ليجعله طاغيا على كل لوحاته. ومع تكراره يجلب النظر والاهتمام، ويصبح عنوان هوية وثقافة محلية قديرة. ويحتفي المعرض بهذا التاريخ السحيق وهذا الامتداد الجغرافي والإنساني للجزائر، نحو اتجاهات تكاد لا تنتهي، لتصل إلى عمق سحيق؛ حيث يستقر الأجداد الأوائل. اللوحات التي تزيّن المعرض والتي استغرقت جهد هذا الفنان العصامي، أراد من خلالها ابن مدينة تيارت عبد الحميد صحراوي، تسليط الضوء على التوارق ثقافة وتاريخا. وفي هذا السياق، يكشف جليا مدى تعلقه بالصحراء وأهلها، خاصة التوارق، وبكل ما يتصل بهم، فحتى طبيعة الصحراء عشقها من خلال تنقلاته إلى هذه المنطقة العذراء الهادئة، ليعرض فكرة أن الترقي رجل حكيم وصبور وشجاع، صورة تكررت عبر لوحاته، التي اعتمد فيها على الفن شبه الواقعي؛ كي يتمكن من إيصال رسائله إلى الجمهور. ويثبت الفنان أن أرض التوارق تمثل جذورنا؛ حيث إنها منبع لغة التيفيناغ. ورسم الفنان لوحات عن تعرض التوارق للاحتلال الفرنسي، مثلهم مثل باقي مناطق الوطن. ويملك الفنان نظرة فيزيائية للمشاهد نتيجة دراسته هذا العلم؛ حيث إن كل نظرة تحمل النسبية في أعماقها، وتحتوي على العديد من الرموز. ويثبت علاقة الفن التشكيلي بالفيزياء من خلال توفر كليهما على مدرستين؛ الأولى أكاديمية كلاسيكية، ترى الأمور من عمومياتها، والثانية تبحث عن جزئياتها، وهو ما يتطلب وعيا ثقافيا معيّنا. أغلب اللوحات باللون الأزرق النيلي، رمز التوارق، منها لوحة عن الترقي الذي يصنع الشاي حسب تقاليد معينة، ولوحات عن التارقيات؛ باعتبار أن للمرأة قيمة عند الرجل الأزرق. وتوقف الفنان عند رقصة "تاكوبا" المعروفة عند التوارق، والتي تنبعث منها قيم الرجال؛ من صبر وحكمة وجمال. وللمعرض جمهوره الواسع من مختلف المشارب حتى من الذين لا يستهويهم كثيرا الفن التشكيلي، لكن عندما يتعلق الأمر بالصحراء والتاسيلي والتوارق، فالكل معني ومهتم، خاصة أن هذا الفنان يلبي كل الأذواق والاهتمامات والفضول، وينجز لوحات صغيرة وأخرى متوسطة، لينتقيها الجمهور ويستمتع بها. ولا شك أن ذكاء هذا الفنان في تسويق إنتاجه سيساهم في جلب الجمهور إلى المعارض، واقتناء اللوحات، ليدخل الفن التشكيلي أكبر عدد من البيوت الجزائرية، ويشيع الفن والجمال فيها مجددا. درس الفنان صحراوي علوم الفيزياء بجامعة الجزائر، وتأثر في تجربته التشكيلية بمجموعة من الفنانين المعروفين، أمثال حكّار وإيسياخم وبيكاسو وسلفادور دالي. و أعماله لا تقف عند حدود مدرسة فنية معيّنة، بل تستلهم من كل المدارس الفنية، منها التكعيبية والتعبيرية والتجريدية والعلمية. ويستخدم صحراوي الأكريليك وفق تقنية مختلطة. وتغطي أعماله المعروضة فترة طويلة من مسيرته الفنية؛ حيث يرجع عمر بعض اللوحات إلى 20 سنة خلت، وصولاً إلى أعمال أخرى أنجزها الفنان خلال السنوات الأخيرة. للإشارة، فإن الرصيد الفني لصحراوي الذي يشرف على إدارة شؤون جمعية "هضاب الفنون" بولاية تيارت، يتجاوز ألف لوحة تشكيلية، بعضها موجود في فرنسا وتونس وكندا وألمانيا.