ساهم التلفزيون الجزائري في توثيق تاريخ الثورة والملاحم التي خرجت من عمق معاناة الشعب، ليقدّم روائع خالدة لا تزال محفورة في ذاكرة الأجيال وقّعها فنانون رحلوا وبقيت أدوارهم البطولية شاهدة على الإبداع. تكرّر بثّ تلك الروائع مع كلّ عيد ومناسبة وطنية، ورغم ذلك بقيت محافظة على وهجها وصدقها الذي يحاكي تفاصيل ومواقف حقيقية . ولعبت الأفلام التلفزيونية والتمثيليات والدراما دورا مهما في توثيق الذاكرة، واستطاعت بكلّ جدارة أن تصل للجمهور وأن تبقى حية. من تلك الروائع التي بثّها التلفزيون (أغلبها بالأبيض وأسود) مثلا "أبناء نوفمبر" للراحل موسى حداد الذي عُرض عام 1976، ويصوّر حرب التحرير بالعاصمة من خلال شجاعة الطفل مراد بن صافي (قام بدوره عبد القادر حمدي) بائع الجرائد الذي يعيل أسرته، مثل الكثير من الأطفال الذين عانوا البؤس وتفرّغوا لكسب لقمة العيش . الصدفة جعلت من هذا الفتى بطلا وشهيدا حيث سلّمه المجاهد عمي العربي وثائق سرية مهمة طالبه بإخفائها وتوصيلها للإخوة المجاهدين، ليدخل الطفل صاحب القلب المريض في رحلة بحث عن المجاهدين والفدائيين، ثم يصبح مطلوبا من الشرطة الاستعمارية. يظل الطفل البطل صامدا إلى أن يقع في يد الشرطة منهكا بقلبه العليل لكن الجبهة تتمكّن من تهريبه من المستشفى نحو بيت مجهول حيث يدلّ المجاهدين على مكان الوثائق ثم يلفظ أنفاسه في مشهد أبكى الجزائريين كثيرا. وشارك في هذه الرائعة كوكبة من النجوم منهم العربي زكال وياسمينة وونيش ووردة آمال والشيخ نور الدين وعبد القادر تاجر وبن عيسى وغيرهم. من التمثيليات التلفزيونية هناك رائعة "أبناء القصبة" للراحل بوعلام رايس مع كشرود وسيد أحمد أقومي ونورية وكويرات وأرسلان وأرزقي نابتي وغيرهم، وتقدّم يوميات عائلة عاصمية بالقصبة تعيش ويلات الحرب ويستشهد في الأخير معظم أفرادها ولا تبقى سوى الأم لتزغرد على الشهداء وتستأنس بابنها البكر "سي هشام" المناضل الذي يشهد فجر الاستقلال. روائع أخرى لا تزال مطلوبة إلى اليوم منها فيلم "السيلان" لأحمد راشدي الذي كان التلفزيون العمومي ملتزما بعرضه من بطولة بوعلام رايس الذي أدى دور فلاح يستهزئ به الكولون، وعندما تشتعل نيران الثورة في القرى يهربون ويدخل هو السجن وعند فراره يصاب بطلقة نار وحينها يحلم باسما بجزائر الاستقلال ليسقط شهيدا بعدها. أفلام أخرى كثيرة منها الفيلم التلفزيوني الثوري "ساعي البريد" مع سيد أحمد أقومي وأرسلان وما صوّره من وحشية الاحتلال الفرنسي وجرائمه، ناهيك عن المسلسلات بدءا من "الحريق" وصولا إلى "ثورة آمود" و"ابن باديس" وغيرها من الملاحم الوطنية. كما تكفّلت الشاشة التلفزيونية ولعقود بنقل الروائع السينمائية للمشاهد وهو في بيته، ما زاد في رواج هذه الأفلام عبر كامل مناطق الوطن لدرجة أنّ معظمها اعتبر أفلاما تلفزيونية مثل رائعة "دورية نحو الشرق" أو "العفيون والعصا" وغيرها، ولا يزال التلفزيون متكفّلا بهذا الإنتاج الذي يمثّل دوما دعما للذاكرة الوطنية خاصة ما تعلّق منها بالمقاومة والثورة. * مريم . ن الباحث والمختص فيصل صاحبي ل"المساء": من وسيلة حرب إلى حافظة للذاكرة والتاريخ تعتبر السينما الجزائرية إحدى الفنون التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الوطنية خلال مختلف مراحل تاريخ البلاد، وخاصة في سياق الثورة التحريرية التي بدأت عام 1954. والسينما لم تكن مجرد وسيلة ترفيهية، بل تحوّلت إلى أداة فعّالة في توثيق الذاكرة الجماعية وتقديم سرد تاريخي متكامل يعكس تجارب الشعب الجزائري في نضاله ضدّ الاستعمار. كما أكّده الأستاذ الباحث المختص في السينما الدكتور فيصل صاحبي ل"المساء، مضيفا أنّ "السينما الجزائرية ولدت في خضم الثورة، ما جعلها ليست فقط شاهدة على الأحداث، بل شريكة في بناء الذاكرة الجماعية وصياغة الأسطورة المؤسِّسة للجزائر المستقلة." قال الدكتور صاحبي إنّه عندما انطلقت الثورة الجزائرية، كان هناك وعي قوي بأهمية الثقافة والفنون في تعزيز الروح الوطنية ورفع مستوى الوعي بين الشعب. إذ أدرك قادة الثورة أنّ الحرب لا تقتصر على السلاح، بل تشمل أيضًا نشر الوعي وتوثيق المعاناة عبر الفنون، وفي مقدّمتها السينما. ومن هنا، بدأت السينما تلعب دورًا حاسمًا في نقل صورة الكفاح الجزائري إلى العالم الخارجي. وتابع محدّث "المساء" أنّ من أبرز الأفلام التي صوّرت واقع الثورة الجزائرية "معركة الجزائر" (1966)، الذي أخرجه الإيطالي جيلو بونتيكورفو، "من خلال تقديم صور قوية وحكايات عن الشجاعة، ساهمت السينما الجزائرية في حفظ وبناء الذاكرة الجماعية"، كما أكّده الدكتور، فالفيلم لم يكن مجرّد عمل فني، بل كان بمثابة صرخة عالمية ضدّ الاستعمار، حيث قدّم صورة واقعية لمقاومة الشعب في العاصمة الجزائر. تجسّدت فيها معاني الشجاعة والفداء، وأصبح رمزًا عالميًا يبرز مقاومة الشعوب للاحتلال، ويُعتبر مشهد استشهاد علي لابوانت مثالًا حيًا على البطولة، وقد أثر هذا الفيلم في العديد من المخرجين والكتّاب حول العالم. مع حصول الجزائر على استقلالها عام 1962، استمرت السينما في أداء دورها كحافظة للذاكرة، لكنّها، وفق الدكتور صاحبي، دخلت مرحلة جديدة حيث عُكست فيها تجارب الشعب الجزائري بشكل أكثر تنوّعًا. كان من المهم أن تُسلط الأضواء على التحديات التي واجهتها البلاد في أعقاب الحرب، وكذلك على الموروث الثقافي الذي تشكّل نتيجة هذه التجارب. أفلام مثل "وقائع سنين الجمر" (1975) و"ريح الجنوب" (1979) تناولت موضوعات تتعلق بالمجتمع والهوية، حيث استكشفت آثار الثورة على الأفراد والمجتمعات. كما أشار الدكتور فيصل صاحبي، "السينما تتيح لكلّ جزائري أن يجد في تلك الشخصيات والمشاهد جزءًا من تاريخه الخاص"، هذه الأفلام لم تكتف بتوثيق التاريخ، بل قدّمت أيضًا تساؤلات حول الهوية الوطنية وكيفية بناء المجتمع بعد الحرب. من خلال تصوير تجارب الشخصيات المختلفة، أصبح بالإمكان فهم التعقيدات التي رافقت مرحلة ما بعد الاستقلال. إنّ السينما الجزائرية، من خلال تناولها لمواضيع متنوّعة، لعبت دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية الثقافية. فهي تسلّط الضوء على التنوّع الثقافي في الجزائر، وتُبرز القيم والعادات التي شكّلت المجتمع. الأفلام الجزائرية تُظهر الفخر بالتراث، وتعتبر وسيلة لنقل القيم بين الأجيال، ما يعزّز الفهم المتبادل ويقوّي الروابط الاجتماعية. كما أوضح الدكتور فيصل "تواصل السينما استحضار صور تجسّد قيم الكرامة والتضامن والشجاعة." يعتبر دكتور فيصل صاحبي السينما وسيلة للتعليم والتوعية حول القضايا الاجتماعية. من خلال تناول مواضيع مثل حقوق المرأة، والفساد، والهجرة، استطاعت السينما الجزائرية أن تطرح تساؤلات مهمة حول التحديات التي تواجه المجتمع اليوم. وتعتبر الأفلام التي تتناول هذه المواضيع دعوة للمشاهدين للتفكير في واقعهم والمشاركة في تغيير مجتمعاتهم، إذ "تتيح السينما للأجيال الجديدة نقاطا مرجعية بصرية وعاطفية للتواصل مع الماضي.، وزاد أنّ السينما الجزائرية تواجه العديد من التحديات في عصر العولمة. مع تطوّر التكنولوجيا وتغيّر أنماط الاستهلاك الثقافي، يحتاج المبدعون إلى الابتكار والتجديد في أسلوبهم ليتمكّنوا من جذب الجمهور. وقال "يجب أن تكون السينما قادرة على التكيّف مع التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها الجزائر، وأن تقدّم أعمالًا تتناول قضايا معاصرة تتعلق بالشباب والمجتمع". تعتبر السينما أيضًا بالنسبة للمتحدّث "منصة للحوار بين الأجيال. من خلال تقديم تجارب متنوّعة، يمكن للأفلام أن تعزّز التفاهم بين الأجيال المختلفة، ما يسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا. وتتيح السينما للشباب فرصة للتعرف على تاريخهم وثقافتهم، وتعزز لديهم الانتماء والولاء للبلد". وتساهم السينما الجزائرية بشكل كبير في تعزيز الهوية الوطنية. من خلال تصوير الأحداث التاريخية وتقديم القصص البطولية، تساهم الأفلام في بناء صورة إيجابية عن الجزائر في عيون العالم. فالسينما ليست مجرّد فن، بل هي أداة للحوار الثقافي، حيث تفتح آفاقًا جديدة للتفاهم والتواصل بين الشعوب. إذ يقول الدكتور فيصل صاحبي "تحتل السينما الجزائرية مكانة محورية في الثقافة الوطنية، فهي لا تكتفي بتوثيق التاريخ، بل ترويه بطريقة تجعله حياً، ملهمًا وعالميًا". وتبقى السينما الجزائرية سفيرًا للذاكرة الوطنية، حيث تنتقل من كونها وسيلة حرب إلى حافظة للتاريخ. إنّ قدرتها على تقديم سرديات تعكس تجارب الشعب وتعكس ماضيهم وتجاربهم تجعلها أداة حيوية للحفاظ على الذاكرة الجماعية وتعزيز الهوية الوطنية. من خلال الأفلام، تتجلى قصص الشجاعة والتضحية، ما يجعل الأجيال الجديدة تتواصل مع تاريخها وتستفيد من دروسه. وستظلّ السينما الجزائرية مرآة تعكس الواقع، وتساعد على تشكيل المستقبل من خلال تجسيد القيم الثقافية والإنسانية التي تتجذّر في تاريخ الجزائر، واختتم المتحدّث "السينما الجزائرية ليست فقط حافظة للذاكرة، بل هي أيضًا منارة تضيء درب المستقبل". * دليلة مالك