❊ جميعنا نملك الشرعية في أن نختار الوسيلة التي تحررنا من النظام الأمبريالي الإقليمي الذي يهيمن علينا. تجاوز "طوفان الأقصى" عامه الأول والحرب في تصاعد مستمر تجاوزت حدودها غزة، لا ندرك عواقبها أمام مساندة حكومات دول الغرب للكيان الصهيوني، وتزايد الأصوات المنددة بما يحدث للفلسطينيّين حتى من بعض اليهود أنفسهم، وكذا تطبيع دول عربية مع العدو... " المساء" تواصلت مع الكاتب الصحفي حسين بللوفي المتتبع للوضع وصاحب كتاب "الشرق الأوسط الكبير.. حروب أم سلام؟ " ، وطرحت عليه عدة أسئلة حول الموضوع، فكان هذا الحوار. لا يمكن الشعبَ الفلسطيني تحقيقُ الاستقلال لوحده ❊ تفاقم الوضع في غزة وفي مناطق مجاورة بشكل رهيب؛ كيف ترى مخلّفات هذه الحرب؟ ❊ من الصعب جدا تحديد نتيجة هذا الصراع اليوم. ومع ذلك يمكن طرح فرضيتين؛ الأولى تتمثل في توسع الصراع بشكل أكبر بمشاركة مباشرة من الولاياتالمتحدة ضد إيران. وسيؤدي ذلك إلى أزمة اقتصادية ومالية عالمية، مع إغلاق مضيق هرمز، ووقف إنتاج وتصدير المحروقات. هذا السيناريو الكارثي من شأنه أن يزعزع استقرار منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) بأكملها، ويمكن أن يثير حربا عالمية. أما الفرضية الثانية فتترجَم بهزيمة إسرائيل، التي ستوافق على إخلاء غزة، والتفاوض على تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية. وتبدو هذه الفرضية الثانية أكثر احتمالا بالنسبة لي في الوقت الحالي؛ لأن حرب الاستنزاف التي تقودها قوات محور المقاومة، تكلف غاليا جدا الكيانَ الصهيوني. ومن الناحية العسكرية، فالخسائر التي ألحقها الفلسطينيون واللبنانيون بالجيش الإسرائيلي (الجنود الذين قُتلوا أو جُرحوا، تدمير المعدات...)، هائلة. أما من الناحية الاقتصادية، فإن الدولة الصهيونية تتدين لشراء الأسلحة والذخيرة، بينما تعاني من تدمير غير مسبوق لبنيتها التحتية، وتواجه توقف إنتاج العديد من الشركات، في حين أنها من الناحية الاجتماعية، مجبَرة على إدارة التشريد القسري لمئات الآلاف من المستوطنين الذين يفرون من القرى والمدن، وكذا هجرة آخرين يغادرون الدولة الصهيونية من غير رجعة. أما من الناحية الدبلوماسية فتزداد عزلتها أكثر فأكثر بين الأمم. وأخيرا على المستوى السياسي، سيزداد التنديد ضد حكومة ناتنياهو؛ بسبب عدم قدرتها على استعادة الأسرى من أيدي المقاومة الفلسطينية والفوز بالحرب. النظام الأمبريالي الإقليمي مستعد لإنكار قيمه للحفاظ على نفسه، ومواصلة نهب ثرواتنا ❊ في هذه الظروف، كيف يمكن فلسطينَ أن تحصل على الاستقلال؟ ❊ مع عملية "طوفان الأقصى" والحرب التي تشنها ضد المحتل الصهيوني، أظهرت المقاومة الفلسطينية ليس تصميما وشجاعة بارزين فحسب، ولكن، أيضا، ذكاء تكتيكيا استثنائيا يعترف به الجميع، بمن فيهم الأعداء. لا شك أنه سيدرَّس في المدارس العسكرية. ومع ذلك من الواضح أن الشعب الفلسطيني لن يتمكن من تحقيق الاستقلال بقواته فقط. إن المراجعة السريعة لتوازن القوى بين الدولة الصهيونية والشعب الفلسطيني، توضح الأمر. إسرائيل دولة قوية في الاقتصاد، وفي الجوانب المالية، والتكنولوجية، والعسكرية... وتحظى بالدعم الكامل من الكتلة الإمبريالية الغربية التي تقودها الولاياتالمتحدة. ومن ناحية أخرى، الشعب الفلسطيني مشتَّت في عدة مناطق ودول مختلفة، تمنعهم من الحصول على نفس الوضع القانوني لمواطنيها. مليونان منهم يملكون الجنسية الإسرائيلية. ويعيش آخرون تحت الاحتلال المباشر في الضفة الغربية. أما سكان غزة فيتعرضون بصورة غير مباشرة، لسجن إسرائيلي في الهواء الطلق، في حين أن بقية الفلسطينيين يعيشون في الأردن ولبنان وسوريا، ودول أخرى عربية وغير عربية. وقبل كل ما ذكرت، يواجه الشعب الفلسطيني إسرائيل والولاياتالمتحدة وحلفاءها الأوروبيين، والأنظمة العربية التي طبّعت أو تطمح لتطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني. إن تحرير فلسطين ينطوي على هزيمة هؤلاء الأعداء الثلاثة، الذين يشكلون بما أسميه النظام الأمبريالي الإقليمي. ومع ذلك فإن هذا النظام الإمبريالي الإقليمي هو الذي يمكّن من تحرير الشعب الفلسطيني. في الواقع، تم تصميم إسرائيل وتجسيدها خدمة لمصالح القوى الغربية العظمى (بريطانيا، فرنسا، ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية) في منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية بشكل خاص، الغنية بالمحروقات، ومفترق طرق ذو أهمية قصوى للتجارة الدولية (قناة السويس، ومضيقا باب المندب وأورمز، وحتى مضيق الدردنيل). أظهرت المقاومة الفلسطينية ذكاء تكتيكيا استثنائيا، يعترف به الجميع بمن فيهم الأعداء كما تقع المنطقة في الجناح الجنوبي لعدو الغرب، وهو الاتحاد السوفياتي سابقا، وروسيا حاليا؛ لهذا عمل الغرب على إعاقة ظهور الدول العربية المستقلة، والحركات الثورية، وهو ما يفسر التوسع الدائم للدولة الصهيونية، التي تحتل، اليوم، أراضي سوريا ولبنان، وتحلم بتأسيس إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات؛ لذلك ليس أساسا بسبب العنصرية المعادية للعرب أو الإسلاموفوبيا حتى لو كان موجودا، أن يهيمن هذا النظام على منطقة الشرق الأوسط الكبير أو منطقة "مينا" ؛ أي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هو يفعل ذلك لنهب مواردها الطبيعية، ولفتح الأسواق المحلية بالكامل، ولمصلحته الخاصة فقط؛ من خلال فرض سياسات رأسمالية ليبرالية جديدة، تُغرق الطبقات المحرومة في الفقر المدقع، فقط القوى الاجتماعية "البرجوازية" والتي تندمج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وتخضع لهذا النظام الأمبريالي الإقليمي، تستفيد من هذا الوضع. ومن وجهة نظري، يجب أن نغيّر رؤيتنا إلى الوضع، وألا ننظر إلى الصراع على أنه مواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. في الحقيقة، يمكن الجميعَ رؤيته كل يوم؛ الصراع أوسع بكثير مما نتصوره، ويتمثل في تعارض كل من حركات التحرير الوطني (فلسطين والصحراء الغربية) والدول التي تريد الدفاع عن سيادتها، وشعوب المنطقة التي تعاني من سياسات ليبرالية جديدة مدمرة، وهذا يعيد توازن ميزان القوى. لم يعد الفلسطينيون المشتّتون وحدهم، محور المقاومة الذي شكلته حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية والسورية والإيرانية، يخوض نفس القتال ضد إسرائيل، والأمبرياليين الغربيين، والأنظمة العربية المطبّعة. هذا الصراع يملك بعدا عالميا أوسع نطاقا، بل عالمي بالفعل؛ فالشعب الفلسطيني يستفيد من دعم سياسي ودبلوماسي وقانوني من العديد من دول العالم، والدعم النشط لحركة تضامن دولية واسعة النطاق، غيّرت الرأي العام العالمي، لا سيما في الغرب. إن تحرير فلسطين يتطلب تعزيز هذا المعسكر الذي ينطوي على إمكانات غير عادية. لنتخيل، كمثال، آثار فتح جبهة جديدة على طول الأردن؛ ما سيجبر إسرائيل على توزيع أكبر لقواتها العسكرية. لنتخيل أن مصر تستعيد سيادتها على ممر فيلادلفيا، وتقرر فتح معبر رفح بشكل دائم لتزويد غزة بجميع أنواع المنتجات. لنتخيل أن الشعب المغربي الشقيق يتجند ويجبر النظام الملكي على مقاطعة إسرائيل، وأن الشعب الصحراوي يستعيد سيادته على أراضيه. هذه الأمثلة القليلة التي يمكن أن نضيف إليها رحيل القوات الأمريكية من سوريا والعراق، من شأنها أن تُخلَّ، تماما، بتوازن القوى السياسية والعسكرية في مواجهة النظام الأمبريالي الإقليمي. لنتخيل، أيضا، أن الطبقات المحرومة من البلدان الخاضعة لسياسات التقشف النيوليبرالية، تقف جنبا إلى جنب القوى الوطنية التي تتحدى السياسات الرأسمالية النيوليبيرالية. لنعتبر أن تحرير فلسطين يعني الهزيمة السياسية لإسرائيل والكتلة الأمبريالية الغربية والأنظمة المطبّعة، فإن تحركات البريكس ستكون، بلا شك، في صالح الشعب الفلسطيني؛ من خلال إضعاف النظام العالمي الأمريكي أحادي القطب اقتصاديا وسياسيا، الذي يُعد الدعم الثابت لإسرائيل. في الواقع، لا يتعلق الأمر بالتخيل، ولكن بالعمل على جعل هذه القطاعات المختلفة من النضال، ممكنة لإنهاء الدولة الاستعمارية والنظام الأمبريالي، الذي يهيمن على المنطقة بأكملها إلى الأبد. حرب الاستنزاف التي تقودها قوات محور المقاومة تكلّف غاليا جدا، الكيان الصهيوني ❊ هل تؤمن بدولة فلسطينية مستقلة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود معا، كما هي الحال في جنوب إفريقيا ؟ ❊ في جنوب إفريقيا، هُزم نظام الفصل العنصري، لكن أقلية فقط من السود الأثرياء، استفادوا. لقد تصالح البيض والسود بالتأكيد، حتى لو كان العديد من البيض يحلمون بالعودة إلى النظام القديم. بيد أن المصالحة بين الأغنياء والفقراء لم تحدث؛ فقط لتوضيح الوضع المأساوي لجنوب إفريقيا، أكثر من نصف شباب البلاد ليس لديهم فرصة للعثور على وظيفة خلال حياتهم. عودة إلى فلسطين، يجب أن نتذكر أن حتى اتفاقات أوسلو طالب الميثاق الوطني الفلسطيني بدولة فلسطينية علمانية وديمقراطية، يعيش فيها المواطنون من جميع الأديان والأصول على قدم المساواة. إسرائيل هي التي فرضت دولة بعرقية يهودية خالصة. الأصوات الغربية المساندة لفلسطين، موجودة، وفي ارتفاع ❊ اختارت المقاومة الفلسطينية السلاح، هل هو مآل كل مقاومة لم تستطع الوصول إلى هدفها بممارستها للسياسة وحسب؟ ❊ الواضح بالنسبة لي، أن تحرير فلسطين يعني ضمناً، تحرير جميع الشعوب، وجميع الدول التي تطالب باحترام سيادتها، مثلما يعني تحرير هؤلاء تحرير فلسطين. نحن جميعا معنيون لأننا جميعا في نفس القارب. الأمر متروك للفلسطينيين، ولهم وحدهم أن يقرروا كيف يقاتلون. لكن لأن المعركة إقليمية، جميعنا لدينا الشرعية في أن نختار الوسيلة التي تحررنا من النظام الأمبريالي الإقليمي الذي يهيمن علينا. ❊ إن الصمت الغربي بشأن ما يحدث في غزة محزن بشكل خاص. ما رأيك ؟ ❊ ربما تشيرين إلى الصمت الرسمي؛ لأن على المستوى الشعبي، تُسمع الأصوات الغربية بما في ذلك الأصوات اليهودية على نطاق واسع، لصالح الشعب الفلسطيني. حركات التضامن الضخمة التي تحشد في الولاياتالمتحدة وأوروبا، تجعلنا نغار منها فعلا. الحكومات ليست صامتة، بل متواطئة مع إسرائيل، فتسلحها وتدعمها دون قيد أو شرط، وتلاحق المتظاهرين البسطاء المتضامنين مع فلسطين. مثال آخر حول المس بديمقراطيتها، فرنسا، بالاتفاق مع الولاياتالمتحدة، تحتجز، بشكل غير قانوني، منذ أربعين عاما، الناشط الشيوعي اللبناني المؤيد للفلسطينيين جورج إبراهيم عبد الله الذي كان ينبغي إطلاق سراحه قبل عشرين عاما. بالمقابل، تحتل إسرائيل مكانة محورية في نظام الهيمنة على الشرق الأوسط الكبير. القوى الإمبريالية الغربية مستعدة لإنكار كل قيمها؛ من أجل الاستمرار في نهب ثروات شعوبنا، والحفاظ على نظامهم العالمي أحادي القطب.