العلم وما يدور في فلكه من باحثين وأفكار مسألة ظلت تدور بخلدي على الدوام. ولعلها بدأت تثير مواجعي الفكرية منذ عام 1959، عند حلاق الحي. سمعته يخاطب أحد زبائنه قائلا: الشيخ الفلاني عالم جليل! وهو يقصد بطبيعة الحال العلم الديني وليس العلم بمعناه الدقيق الذي نعرفه اليوم. نحن في ثقافتنا التقليدية المعاصرة لا نكاد نفرق بين هذين النوعين من المعرفة، أي المعرفة الدينية والمعرفة العلمية بمختلف فروعها الدقيقة. مع أننا نعلم أن الثقافة العربية الإسلامية في عهودها الزواهر كانت تعرف التفريق بينهما، فتقول عن فلان إنه فقيه أو متصوف أو عالم بشؤون النحو والبلاغة، كما أنها تقول عن العالم الفلاني إنه طبيب أو ضليع في علم الجبر والهندسة والفلك إلى غيرها من الشعب العلمية الدقيقة. ظل حلاق الحي عاجزا عن النظر نظرة صحيحة إلى العلم بالرغم من أنه عاش قرابة عشرين عاما في فرنسا، أعني أنه احتك احتكاكا يوميا بشؤون العلم في مظاهره الخارجية. وقد عاد إلى بلده الجزائر في بداية عام 1959، غير أن تدينه العميق، حسبما فهمته منه، هو الذي كان وراء الأوصاف التي يطلقها على هذا الشيخ أو ذاك. وبمرور الزمن، أدركت أن تلك الأوصاف كانت رمزية في المقام الأول، فالأمر الذي كان يعنيه هو تقدير كل من انطوى على معرفة، سواء أكانت دينية أم علمية. المهم في العلم هو الجانب الرمزي على حد ما قاله عالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاري Henri Poincaré. وبالفعل، فهو يرى أن على الإنسان أن ينظر إلى أي جانب من جوانب المعرفة على أنه صحيح حتى وإن وضع يده على هذا الخطإ أو ذاك. وقد كان بوانكاري يرى أن نظرية نيوتن في الجاذبية، وسقوط التفاحة بالذات، أمر قد يكون خاطئا على وجه الاحتمال، لكن ينبغي مع ذلك النظر إليه على أنه مسألة صحيحة، بالغة الدقة. أحسب أن الكثيرين منا ينظرون نفس النظرة إلى المفهوم السائد في مجال الثقافة التقليدية، تلك التي لا تميز بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية الدقيقة. وقد يكون سبب بلائنا في هذا العصر كامنا في عدم التفريق بينهما، بل إن المشعوذين الذين برزوا في ساحات العالم العربي الإسلامي كله عرفوا كيف يستحوذون على أذهان السذج حين استغلوا جهلهم بما هو صحيح ودقيق في مجال المعرفة. وقد عز شأنهم في حين ذل شأن أولئك الذين أمضوا حياتهم كلها في المختبرات، وأجهدوا عقولهم لحل هذه المعادلة أو تلك، وفك الرموز المستغلقة في علم الفيزياء والذرة والحاسوب وعشرات الشعب العلمية الأخرى.