عند الحديث عن أعلام الجزائر، ينبغي على المتحدّث أن يستعدّ بما يشبه الاستعداد العسكري لتحية هذا العلم أو ذاك، قبل أن يخوض في تفاصيل حياته أو يعطيها صورة شاملة، فكلّ علم من أعلام الجزائر إلاّ وتجده وكأنّما خضع لشروط ومقاييس لا ينبغي عليه تجاوزها أو أخذ صفة القلمية بدونها، وهي قبل كلّ شيء الشجاعة، وهذا ما جعل معظم الأعلام روّاد جهاد، الثقافة الدينية العميقة التي تنتج أخلاقا سامية التي تحدّث الرسول ( صلى الله عليه وسلم) أنّه أرسل ليتمّم مكارم الأخلاق التي تمثّلت كاملة في صفته صلى الله عليه وسلم بشهادة الخالق عزّ وجلّ، التفتح على ثقافة الآخر وهضمها وتشريحها لخدمة القضية الجزائرية مجتمعا ولغة وحضارة وفق هذا وذاك وتثبيت الذات الجزائرية من خلال التميّز الذي يعطيها قامتها الحضارية والثقافية، من هؤلاء الأعلام الذين ثبتت عليهم هذه المقاييس وتوفّرت فيهم هذه المميّزات، الأمير خالد بن عبد القادر الجزائري. الأمير خالد رغم وضوح شخصيته، إلاّ أنّها تبقى شخصية مغلقة عند العامة وغير معروفة، ولم تخترق بعد جدران قاعات الملتقيات والموائد المستديرة وبعض صفحات كتب التاريخ في إطار عرض ظرف زمني وأحداث تاريخية معينة، الأمير خالد الجزائري نبع من بيت شرف ورئاسة ومقاومة، بيت تحوّل إلى رمز من رموز تاريخ الجزائر الحديثة منذ أن بويع شبل من أشباله لإمارة الجهاد والذود عن البلاد، ألا وهو الأمير عبد القادر الجزائري، الذي خاض حربا جهادية تحريرية ضدّ المحتلّ الغاشم الفرنسي، وكانت حربا طويلة وقاسية انتهت بنفيه وثلّة من خيرة الأبطال والمجاهدين والمثقفين إلى دمشق التي اختاروها دارا لإقامتهم بعد كفاحهم الطويل. لم تكن إقامة الأمير عبد القادر بدمشق إقامة للاستراحة والفراغ والعبادة، بل كانت حياة متواصلة للصلاح والعلم والخير للإنسان دون تمييز أو تحيّز، مما زاد هذه الشخصية لمعانا ونصاعة وأصبحت من الشخصيات العالمية التي يشار إليها بالأصابع، هذه الأسرة الجزائرية الطّيبة العريقة لم تثمر إلاّ ثمرا طيّبا أصل شجره ثابت وفروعه في السماء، ومن ثمر هذا الشجر الطيّب الأمير خالد نجل الأمير عبد القادر، الذي ولد له بدمشق يوم 20 فيفري 1875وتوفي الأمير عبد القادر وتركه وهو ابن الثماني سنوات من عمره، لأنّ لأمير عبد القادر رحمه الله توفي بدمشق عام 1883م. يفتح الأمير خالد عينيه في بيت أركانه العلم وحجارته الجهاد وأثاثه التقوى والصلاح، ثماني سنوات كانت كافية لتنقش في صفحة حياته هذه الإضاءة وهذه الشخصية المتميّزة والكبيرة، وأيضا المثقّفة والمتفتّحة لما كانت لها من سمعة في بلاد الشام وفي العالم المتقدّم بملوكه وقياصرته وسلاطينه ورؤسائه، وهذا يتجسّد في استقبالها للوفود التي وفدت على هذا البيت من سفراء الوافدين إليها ممثلين لكبار رؤساء وشخصيات العالم، صقلت شخصية الأمير خالد وجعلته يدرك أنّ بيته بيت غير عاد، بل له ميزته وشخصيته وتاريخه، كلّ ذلك رآه وعاينه في عظمة شخصية والده ومواقفه الإنسانية العظيمة، والعلمية الشريفة النقية المتفتّحة غير المنغلقة والمسايرة للواقع غير المتخطّية عليه والتي تدري من أين تبدأ وإلى أين تنتهي. لم تكن ثقافة الأمير خالد ودراسته كتلك التي نشأ عليها والده الأمير عبد القادر، ولم تكن بالدراسة التقليدية التي يجلس فيها إلى الشيخ ليأخذ عنه العلم ثم يجاز ليجلس جلسته تلك في مسجد من المساجد، فالأمير خالد لم يفرط في دراسة اللغة العربية والتشبّع بها والتسلّك بمناهج كتابها العظيم الكريم، كما أنّه لم ينغلق على نفسه في هذه اللغة، وإن صحّ التعبير لم تغلق عليه أسرته في هذه اللغة بعدما اكتسبته من التفتّح نظرا لمشاهدته في كبار العواصم العالمية من تقدّم وتطوّر وابتكارات علمية كبيرة، وتلقى الأمير خالد منابعه العلمية الأولى باللغتين العربية والفرنسية بدمشق، ليلتحق بعد ذلك بثانوية "لويس الأكبرّ بباريس بعد أن عادت عائلته إلى الجزائر سنة 1892م. ونظرا لتاريخ أسرته العسكري والنضالي ولما لهذه العسكرية من شرف ونبل وإثبات الذات، التحق الأمير خالد بالكلية الحربية الفرنسية "سان سير" ليتخرّج منها برتبة ملازم أوّل ثم يرقى إلى رتبة نقيب سنة 1908، لم يمارس الأمير خالد العسكرية ممارسة نظرية من خلال ما تعلّمه في الكلية العسكرية، بل دخل مرحلة العمليات الحربية ليشارك في الحرب العالمية الأولى كضابط في سلاح الفرسان، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ينسحب الأمير الخالد من الحياة العسكرية سنة 1919ليدخل المعترك السياسي والنضالي. الأمير خالد يعدّ رائدا من روّاد حركة الإصلاح والنضال السياسي، بل مؤسّسا لهذه الحركة، وقد استمدّ الأمير خالد حياته النضالية من الثراء التاريخي لأسرته المتمثّلة في والده الأمير عبد القادر ثمّ من تجربته الخاصة وحياته العسكرية، التي أثرت تجاربه وثقافته من خلال الاحتكاك بالمثقفين والشخصيات النافذة ودراسته عن كثب واقع شعبه والشعوب الرازحة تحت الاحتلال وما تعانيه من ميز عنصري وهضم لحقوق المواطنة. بعد خروجه من الجيش ودخوله المعترك السياسي، بدأ الأمير خالد في فتح جبهة مناضلة ضدّ دعاة الإدماج والتجنّس بالجنسية الفرنسية، وجبهة أخرى طالب فيها بحقوق الجزائريين كاملة، وفي نفس الوقت وقف في وجه غلاة المعمّرين والنوّاب الفرنسيين وقد بعث بعرائض مطالب لهذه الحقوق إلى الرئيس الأمريكي ولسن طرح فيها عليه مطالب الجزائريين. لم يقتصر نضال الأمير خالد السياسي على توجيه العرائض التي تحتوي قوائم المطالب، بل ارتقى بهذا النضال إلى الحقل الإعلامي التحسيسي التعبوي لتوعية الجزائريين، وذلك من خلال تأسيسه لجريدة "الإقدام" سنة 1920طارحا أفكاره من خلالها، مدافعا عن فكرة العدالة والمساواة بين الجزائريين والفرنسيين في الحقوق السياسية. ترشّح الأمير خالد للانتخابات البلدية ليصبح عضوا بمجلس بلدية الجزائر العاصمة، وإلى جانب هذا النشاط السياسي الاجتماعي المكثّف، أسّس الأمير خالد جمعية تسمى "جمعية الأخوة الجزائرية"، كما طالب في خطاب له ألقاه بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي ميليران الجزائر ربيع 1923بحقوق الجزائريين. النضال السياسي المكثّف للأمير خالد بات يشكّل خطرا على سلطات الاحتلال، حيث أصبحت هذه السلطات تضع له ألف حساب، كما بدأت تضع الخطط والتدابير لإنهاء هذا النشاط ومحاصرته ولم تجد سبيلا لذلك إلاّ باستصدار أمر من الحكومة الفرنسية لنفيه خارج الجزائر، وتمّ إصدار قرار حكم النفي على الأمير خالد في شهر جويلية 1923، حيث تمّ إبعاده إلى مصر التي استقبل فيها بحفاوة وتكريم، ولم يحد النفي من نشاط الأمير خالد خارج الجزائر، بل زاده إصرارا أكثر للمطالبة بحقوق الجزائريين واتّضح ذلك في مشاركته في مؤتمر باريس للدفاع عن حقوق الإنسان. واصل الأمير خالد نضاله السياسي في مراسلاته التي كانت تطالب بحقوق الجزائريين إلى الزعماء الفرنسيين، ففي سنة 1924راسل الأمير خالد رئيس الوزراء الفرنسي"هيريو" يؤكّد له فيها على المطالب الأساسية للجزائريين، وفي سنة 1926عاد الأمير خالد إلى مسقط رأسه دمشق وسجّلت له هناك نشاطات مع الوطنيين السوريين، وحاول الأمير خالد مرارا وتكرارا العودة إلى أرض الوطن، إلاّ أنّ السلطات الفرنسية لم تسمح له بذلك إلى أن توفاه الله إليه في 09 جانفي 1936بدمشق. هذه نبذة من سيرة هذا البطل الفذّ الذي كرّس حياته من أجل إثبات الذات الجزائرية واسترجاع حقوقها، فكانت حياة مجاهدة صامدة وشجاعة، لو كانت هذه السيرة لهذه الشخصية الفذّة خارج إطار الجزائر لصوّرت لها الأفلام والمسلسلات، فمتى نعطي شخصياتنا الوطنية حقّها ونقرّبها من الجميع ونخرجها من إقامة السطور والقبور ودائرة النسيان إلى النور والنشور، لتذاع بين الناس وتعطي بعدا ثقافيا وطنيا لشخصيتنا التي يحاول البعض هدمها ومسخها والقفز عليها وتشويهها وجعلها مجرّد تابعة تصديقا للنظرية القائلة "المغلوب مولع بالغالب".