اليوم، وأنا أنصت إلى مقام أصبهان من عزف الفنان التونسي قدور الصرارفي على آلة الكمان، عادت بي الذاكرة إلى عام 1952، وإلى أرباض ما كان يسمى أيامذاك بأوبرا الجزائر. ولا شك في أننا كنا في عطلة يوم الأحد، إذ أن الراجلين والراكبين كانوا يرتدون أجمل أثوابهم في ذلك اليوم البعيد. نزلت رفقة المرحوم والدي من حينا العتيق صوب ساحة (بروسون)، (بور سعيد حاليا)، وما كان في نيته أن يقتطع تذكرة له ولي لكي نتمتع بما يقدم من معزوفات في دار الأوبرا، ذلك أنه كان يريد أن يروح عني في تلك الساحة العجيبة التي يختلف إليها أبناء مدينة الجزائر من جزائريين ومن أبناء المعمرين الفرنسيين. كنت مأخوذا بتلك الجياد الصغيرة التي يمكن كراؤها والقيام بدورات على متونها وسط الأشجار الباسقة والتماثيل ونوافير المياه. وامتطيت جوادا تحت إشراف غجري عجوز، ورحت أباهي الدنيا كلها بتلك الإنخطافة الساحرة بين الأشجار عند العصر. ولفت نظري في تلك الأثناء أن عددا كبيرا من الناس اصطفوا عند مدخل الأوبرا بعد أن اقتطعوا تذاكرهم، ثم تبين لي أنهم كانوا يريدون الاستمتاع بما يعزفه الفنان قدور الصرارفي، صاحب الكمان العجيب. وما كنت مؤهلا بطبيعة الحال لكي أحكم على تقنيات العزف عند ذلك الفنان، ذلك أن معلوماتي في تلك السن كانت مقصورة على أغاني علي الرياحي والهادي الجويني وصفية الشامية وصليحة، أصغي إليها بين الحين والآخر حين يجري بثها في الإذاعة. لكنني عندما دخلت صحبة والدي إلى مقهى من المقاهي المجاورة للأوبرا لكي أتناول مشروب النعناع البارد، أبصرت به يصوب أنظاره نحو مجموعة من الناس يحملون آلات موسيقية وهم في طريقهم إلى دار الأوبرا. وما كان هؤلاء الفنانون سوى قدور الصرارفي وعلي الرياحي وعدد من العازفين التونسيين الذين كانوا نازلين بفندق (الواحات) في شارع (جول فيري) بالقرب من مبنى الأوبرا. منذ ذلك الحين وأنا أنصت بشغف كبير إلى معزوفات وتلحينات الشيخ قدور الصرارفي، وعلى رأسها معزوفة يؤديها على الكمان، على مقام أصبهان، هذا المقام القادم من أعماق بلاد فارس خلال القرون الماضية، والذي طعمه العازفون على الكمان والرباب والعود والقانون حتى صار عربيا خالصا. وعرفت أيضا أن الشيخ قدور الصرارفي علم الموسيقى في الجزائر في مطالع الخمسينات من القرن الفائت وأن له بنتا هي من أكبر عازفات الكمان في العالم العربي بالإضافة إلى كونها قائدة فرقة موسيقية شهيرة في تونس. رب مقطع موسيقي يعيد إليك الحياة كلها، ويربطك بجذورك وبأبناء عمومتك الحقيقيين!