عرف العرب منذ الأزل بالكرم الذي يعتبر من الأخلاق العريقة التي كانت دليل الرفعة والفخار والمجد وعلو الهمم، فمازال حاتم الطائي رمزا للجود والسخاء ومضربا للمثل، وكان كرم الضيافة واجبا توارثته الأجيال عن الأجداد وظل الضيف سيدا في بيت مضيفه، الى أن عصفت الأزمة المادية بالبيوت، فأصبح إسم ضيف هاجسا مخيفا تستنفر له الأنفس قبل الجيوب، لأنه بكل بساطة يبتلع المدخرات أو يأخذ مصروف الأسبوع· ولمعرفة مدى تأثير الأزمة الإقتصادية على كرم الضيافة الجزائرية، تحدثنا الى مواطنين من مختلف الأعمار بهدف إطلاع القارئ على آرائهم من خلال هذا الاستطلاع· الجود بالموجود لا يختلف إثنان على أن الجزائري كريم بطبعه وحنون أيضا، وهذان الصفتان المتلازمتان تجعلناه يقف حائرا أمام الزائر أو الضيف الذي يطرق بابه لساعات أو لأيام، حيث يضطر للإستدانة لإتمام عملية الكرم التي أصبحت تخضع للمعيار المادي، خصوصا إذا كان المضيف صاحب دخل متوسط، فبعملية حسابية بسيطة جدا، نجد أن فطور الضيافة يكلف 1500دج إذا كانت الوجبة الرئيسية بقاعدة كلغ لحم غنم أو لحم بقر (طبعا كيلو واحد + سلطة + فاكهة ومشروب غازي أو عصير وخبز)، وإذا اختار المضيف توسيع الدائرة وأضاف الحساء أو الشوربة، فإنه يضطر لإضافة 500 دج أخرى، طبعا دون إغفال حبات الحلويات التي ترافق صينية القهوة، هذه الاخيرة غدت ملجأ الكثير من الأشخاص كونها الوجبة الوحيدة الأقل تكلفة· تقول السيدة (ع·ب): يمكن أن أقول إني مخضرمة في هذا المجال فقد عشت أيام الرفاه في سنوات خلت، والشدة خلال هذه الفترة، ورغم أني أعمل وأساعد زوجي في مصاريف البيت إلا أني أشعر بهذا التغير الذي فرض نفسه على العقلية الجزائرية، فبعدما كنا في وقت غير بعيد ننتظر قدوم الضيف بفرح وسرور، أصبحنا نحسب ألف حساب لتلك الزيارة التي نتمنى في قرارة أنفسنا أن تكون خفيفة حتى لا تثقل كاهلنا، لكن كل هذا لم يؤثر بالنسبة لي على صورة المقابلة والإكرام في حد ذاته، بحيث أقتطع من مصروف البيت وأحرم أبنائي من بعض الأشياء لأكون جاهزة لمقابلة ضيفي وإكرامه لأن هذا واجب بالنسبة لي، وأظن أن ميزانية أسبوع كافية لتحمير الوجه· نقاطعها·· وماذا لو لم تكن هناك اوراق نقدية للقيام بالمهمة؟ فتقول: حدث هذا معي مرتين وقمت بالإستدانة من زميلة لي في العمل، المهم أني قمت بالواجب، زد على هذا فإن ما يقوله الضيف بعد الخروج من منزلي هام جدا بالنسبة لي· أما الحاجة "نورية" المرأة البسيطة المتواضعة، فترى أن فتح الباب لاستقبال الضيف مع الابتسامة في وجهه بصدق وإخلاص هما أكبر ما يمكن ان يكرم به الضيف في هذا الزمان الذي يعرف فتورا في العلاقات الاجتماعية، وتقول: أنا شخصيا لا أتضايق من أي ضيف يطرق بابي ولا أهتم أبدا بالوقت الذي جاء فيه، لأني سأكون بسيطة في التعامل معه، ولن أكلف نفسي فوق طاقتها وأعمل بالمثل القائل: الجود بالموجود· فلطالما قمت بخبز الحْنيس أو حضرت الرْفيس أو المْعارك وقدمتها لضيوفي مع القهوة وسط اجواء تطبعها المحبة والود، أما الفطور أو العشاء فيكون وفق ما يوجد بالثلاجة، أو المعروف الموجود في الخزانة، فإذا استطعت شراء اللحم وطبخت أكلا لذيذا فلن أتوانى، وإذا لم استطع اكتفيت بجفنة كسكسي بمرق الخفار أو الجلبان والرايب، وهذا ما فعلته دوما في حياتي· من جهتها، السيدة (ن/م)، المدرسة، ترى أن الوضع المادي الصعب الذي تمر به العائلات الجزائرية أفقدها بعض خصائص الكرم مثل اختيار الأفضل وتقديمه مرفوقا بالإبتسامة دون تأفف أو قلق، وكذا عدم السؤال عن مدة الإقامة، حيث كان الضيف في وقت غير بعيد لا يسأل عن مدة اقامته ويترك حرًّا ملكا في فضاء الكرم، أما حاليًا فبمجرد مشاهدة الحقائب يطرح السؤال كم تنوي الإقامة؟، إلا أن هذا لم يمحُ الواجب، وتقول: أنا شخصيا أراعي الكثير من الامور عند زيارتي لأي شخص، حيث أختار مابعد الظهيرة لتفادي إحراج تقديم الفطور، وإذا كانت العائلة المضيفة فقيرة وأنا أدرك وضعها المادي آخذ لوازم القهوة معي، وغالبا ما أتحجّج بالصيام، خصوصا في أيام شوال· وتضيف محدثتنا قائلة: أنا أيضا أفضل أن يراعي ضيفي مثل هذه الامور، لكن أهلا وسهلا به لأن كرم الضيافة واجب وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بضرورة إكرام الضيف· ويرى السيد علي، 50 سنة، رب أسرة، أن كرم الضيافة يسري في دمه وأنه مستعد للتضحية بقوت أولاده مقابل ابتسامة ضيفه، لأنه زائر عابر، أما عائلته فستقدّر الظروف، كما يولي اهمية كبيرة لما سيقوله ذلك الضيف للأهل والأصدقاء، ويقول: أنا من بيئة ريفية تهتم بهذا الجانب كثيرا، ورغم أن الحياة في الريف والمدينة مختلفة، نظرا إلى الغلاء الفاحش، إلا أن الضيف يبقى ملكا، لهذا أفعل كل ما في وسعي لاستضافته بطريقة تفرحه وتجعله في راحة نفسية تامة حتى لو كلفني ذلك مصروف البيت والأولاد·· صراحة يهمّني كثيرا ما يقال عني في هذا الأمر بالذات·
"خفيف ظريف" وإلا··· لا!! وإذا كان الكثير من الأشخاص يحرصون على إتمام الواجب رغم الازمة وضعف القدرة المادية، فإن هناك من أرهقته الظروف لدرجة أصبح يرى أن الضيف القادم قد اضحى عبئا ثقيلا عليه وحبذا لو يتراجع عن قراره ويعود أدراجه لأن الظروف المادية لا تسمح بالقيام بالواجب والهدرة ما ترحمش، وفي هذا الصدد تقول السيدة (ز·د): صعب جدا أن تبتسم بصفاء وصدق في وجه الضيف وإن كان شخصا عزيزا وسط محيط تطبعه البطالة· فأنا شخصيا لديّ أربعة أبناء، إثنان منهم بدون عمل، أما الآخران فلا يزالان في مقاعد الدراسة، وكل مصاريف البيت يتحملها الزوج مقابل دخل لايتعدى 20000 دج، نقتطع منها مصاريف الاكل والعلاج والكراء والكهرباء واللباس طبعا، فماذا سيتبقى منها للتعبير عن الكرم او الفرحة بالشخص القادم، طبعا هنا سيضطر الشخص المضيف للنفاق، كونه يعتصر من الداخل ويبتسم في الظاهر، وأنا شخصيا أفضل الضيف الخفيف الظريف، فلا بأس من تقديم شيء بسيط غير مكلف، لأن التفكير في الجود سيعود سلبا على ميزانية البيت ومنه تدهور الوضع المادي· من جهتها، السيدة (ح·ا) وزوجها يفضلان عدم طرق الضيوف لبابهما حتى لو كان هذا الضيف من المقربين، لأن الغلاء أفقرهما صفة الكرم حسب تعبيرهما وأن الأمر لم يعد مجرد أنفة ورَجلة، بل ميزانية يحسب لها ألف حساب مقابل رجل بطال يضطر ل التحمال في الميناء لكسب قوت يومه· يقول ياسين: اخلاص لقد قضى الغلاء والفقر على الصفات التي كانت جزءا من أصالتنا، فقد كان مقدم ضيف بالنسبة لنا في السابق حدثا سعيدا، لكن الآن أصبح هاجسا وقلقا وحرجا أيضا، فكثيرا ما يتعذر عليّ تقديم فنجان قهوة ساخن وأرفض شرح ظروفي للجميع، لكن ذلك الشخص سيظن أنني بخيل أرفض إكرامه، ومع هذا أستلف من الجيران أحيانا، لكن الله غالب، الوقت صعيب، تقاطعه زوجته: لم نكن هكذا في السابق، فحتى الضيف كان بسيطا غير مكلف، لكن الآن إذا لم تكرمه بما يرضي نفسه خرج من بيتك والحسرة تمزقه ويسمع الناس بأنك قصّرت في حقه وأنك بخيل ولا تفهم في الأصول، دون مراعاة وضعك المادي··· *