باتت العديد من العائلات الجزائرية تفضل الحمامات المعدنية على شواطئ البحر هذه الأخيرة التي أضحت وبحسب الكثيرين مصدر إزعاج ومشاكل أكثر منها راحة واصطيافا مما دفع بالكثيرين إلى الاهتمام أكثر بالحمامات المعدنية ،حمام ملوان إحدى الواجهات التي اخترناها وزرناها نهاية الأسبوع الماضي فكانت بحق زيارة لا تنسى والاكتشاف الذي وجدنا فيه أهم معالم الحياة البسيطة ومنبع الأساطير والخرافات والحقائق كذلك ...ففيها الراحة والخلوة وفيها دواء بمياهه المعدنية المباركة و زواج للعوانس وأولاد للعاقرات وشموع وحناء وأساطير عن نبي الله سليمان وعن آخر دايات الجزائر وطقوس شعبية بعبق البخور والجاوي أبت العائلات التخلي عنها وسط زخم العولمة والتطور التكنولوجي. إذا كان موسم الاصطياف يرتبط عند معظم الناس بالبحر، إلا أن الكثيرين حادوا عن هذه القاعدة بعد تحول العديد من الفئات وشرائح المجتمع باختلافها لوجهات أخرى لاسيما ممن يفضلون التوجه إلى الحمامات المعدنية، لخصوصيتها العلاجية، ومنها حمام ملوان الشهير والمتواجد على سفوح جبال الشريعة، الواقع بلدية صغيرة تحمل اسمه هي بلدية حمام ملوان الواقعة ببلدية ''بوقرة'' بالبليدة التي تبعد عن العاصمة بنحو 45 كلم ومعروف عن الحمام شهرته بمياهه المعدنية الحلوة والمالحة والتي يقصدها الناس للتداوي والراحة والاستجمام على ضفاف نهره المتدفق من منطقة مقطع لزرق . متعة مشبعة بالأساطير، الخرافات...والحقائق وأنت تدخل حمام سيدي سليمان ببلدية حمام ملوان يخيل لك انك تدخل بيوت احد أشهر واعرق الدجالين والمشعوذين أو مقام ولي من أولياء الله الصالحين فيقشعر جلدك لرؤيتك عددا من العجائز المكتحلات عيونهن بكحل محلي الصنع يشد الناظرين ويجذبنك نحوهن بدعوات لشراء منتجاتهن التي تتنوع بين الكحل والحناء والشموع وأنواع متعددة من البخور الذي يتم فسخه عند مدخل الباب الخاص بالنسوة إيذانا بفك جميع طلاسم السحر والمس والحسد فرائحة البخور تكاد تطبق على المكان المظلم والشديد الرطوبة بفعل بخار الماء الساخن المنبعث من داخل ألحمام، وقبلها لا بد أن تستمع إلى ما تقوله وترويه تلك العجائز حول معجزات الحمام في خطوة تمهيدية الغرض منها شحن وتهيئة النفوس للامتثال للطقوس والعادات المطبقة به. وحتى إن لم تكن من رواد الخرافة إلا ان الاستماع إلى تلك القصص لا يخلو من المتعة والتشويق و التي تعود إلى الزمن الغابر المليء بالأساطير والخرافات التي جمعت أنبياء الله بأوليائه وبملوك العصر الوسيط فامتزجت جميعها لتصنع قصصا صدقها أهلها فكانت فأل خير على الكثيرين من عليهم الله بالشفاء والأولاد والزواج... ومن فرط الاستماع إلى قصص الجن والملائكة حول المنطقة فانك تشعر برهبة كبيرة تخيم على المكان وتقول إحدى الأساطير المعروفة بالمنطقة والتي تعد الأكثر تداولا بين الألسن أن النبي سليمان عليه السلام عندما أراد أن يقوم بجولة طويلة عبر العالم، أوفد جمعا من العفاريت والجن ليستكشفوا له الطريق، ويحضروا له أماكن وحمامات للاستراحة من تعب السفر والاستجمام وكان من بين ما اكتشفوه هذا الحمام'' حمام ملوان''، والذي لا يزال الجزائريون لحد اليوم لا يعرفون سر هذه القدرة الخارقة التي يتمتع بها حام ملوان في الشفاء من الأمراض المستعصية والعديد منهم أصبحوا يقصدونه اليوم للتبرك بمياهه لإيمانهم بأنها تقضي على الأمراض المزمنة كأمراض المفاصل '' الروماتيزم''، ومختلف الأمراض الجلدية. كما تحكي عجائز الأطلس البليدي أن داي الجزائر الأخير الملقب ''الداي حسين'' أصاب ابنته طفح جلدي فلزمت الفراش شهورا طويلة وأخذ جلدها يتآكل بفعل المرض وفقد وجهها الحسن جماله وبريقه وعجز ترياق الأطباء عن علاجها، وكانت ابنته القريبة إلى فؤاده تتألم وتتألم إلى أن أرشده أحد وزراء القصر أنه يذكر وجود مكان في أسفل جبال الأطلس البليدي من جهة الشمال الشرقي، تقصده خاصة النسوة والعجائز للتبرك والتداوى من الأسقام والأورام الجلدية فكان أن قبل الداي حسين المشورة وذهب بابنته الحسناء إلى ذلك المنبع في موكب ملكي حزين عسى أن تشفى من ماء ذلك المكان، لكن بقدرة قادر أزيح الحزن ولم يدم طويلا بعد أن تلاشت أعراض المرض مع أولى جلسات الاستحمام أخذتها صغيرة الحاكم وأشرق وجهها نورا وضياء من جديد، فحمد الداي ربه وفرح بعودة ابنته إليه سالمة من غير سقم، ومنذ ذلك الزمن والناس يقصدون ذلك المكان الذي أصبح يعرف اليوم بحمام ملوان...ومنذ ذلك اليوم زاد إقبال النسوة على هذا المكان وبالذات إلى ''عوينة البركة'' أو (منبع البركة) المنبع الذي تخرج منه المياه الساخنة والعذبة قبل ان يجري عبر الوادي الذي يأتي مصبه من ''مقطع الأزرق''. . حمام ملوان: رحلة بحث عن الزوج،الأولاد ..والشفاء أن ابرز ما تلمحه ببلدية حمام ملوان هو التواجد المكثف للنسوة باعتبارهن من أكبر رواد حمام ملوان وكن قديما لا يأتين للتداوي فقط من بعض الأمراض الجلدية وبعض أنواع الأورام أو داء ألالتهاب العظام والمفاصل، بل هناك من يأتين من أجل معالجة العقم، ومن تبحث عن نضارة البشرة وجمالها، وتلك التي تبحث عن الزوج والسعد الجيد وكسر الحسد والعين وغيرها... وكانت النسوة في القديم عندما يأتين إلى هذا الحمام يجلبن الشموع والحناء وكأنهن في زيارة إلى ضريح أو مقام أحد أولياء الله الصالحين، لكن اليوم كل شيء متوفر عند مدخل الحمام من شموع وأنواع من البخور والحناء والى جانب البيض والدجاج الحي الذي يتم اقتناؤه لذبحه أمام مقام الولي سليمان تبركا وتقربا إليه عساهم ينتفعون ببركاته وينالون مرادهم . وما يلفت انتباهك في الحمام التواجد المكثف للنساء والفتيات العازبات والعوانس وإقبالهن على الالتزام المشدد بالطقوس من أجل التبرك ب ''سيدي سليمان'' الولي الصالح الذي يرقد ضريحه بالمكان، حيث يشترين البيض المسلوق الذي يباع على طول الطريق المؤدية إلى المكان ويضعنه أمام الضريح، كما يقمن بإشعال الشموع ويضعن الحناء، في الوقت الذي يقمن فيه بالدعاء عسى أن يستجاب لدعواتهم بعد أداء تلك الطقوس، فمنهن من تتمنى الزواج وأن ترزق بالرجل الصالح علما انه وخلال سنوات السبعينيات كان الحمام مكانا مناسبا و معروفا بخطبة الفتيات حين تلتقي النسوة داخل الحمام وتلمح فيه الفتيات الشابات المرافقات لأمهاتهن فتكون العروس المناسبة للأبناء ، ويسود الاعتقاد ان خطبة فتاة بالحمام يعتبر بركة من بركات سيدي سليمان ..فيما تتطلع النسوة العاقرات في الإنجاب والحصول على الولد فيأملن أن يرزقن بطفل ، كل هذا يتم في جو تتعالى فيه الزغاريد،والمدائح الدينية التي تستذكر فيها سيرة النبي في مشهد يحمل الكثير من التناقضات المهم في الأمر أن مثل هؤلاء واثقون تماما أن بركات ''سيدي سليمان'' تحيط بالمكان ولذلك يثقون بإمكانية ان تتحقق رغباتهم وتشفى أمراضهم. الأمان يعيد الحياة لملوان والتنمية تجمدها من كان يصدق أن الحياة ستعود يوما إلى طبيعتها بمنطقة حمام ملوان التي كانت وخلال العشرية الدموية تنتمي إلى ما يسمى بمثلث الموت حيث كانت المنطقة محرمة بعد أن تمركزت فيها فلول الجماعة الإرهابية المسلحة منذ الأيام الأولى لمسلسل العنف الدموي والتي وجدت في المكان العذري ملاذا آمنا لها بحكم تضاريسه المتداخلة، ويشبه سكان المنطقة حالهم بحال مريض على شفير الموت عجز الأطباء عن شفائه فترك للوقت يتقبض روحه المحتضرة إلى أن جاءت معجزة الحياة من جديد، خطفت الرجل من موت مؤكد وأعادته شابا يافعا تتقاذفه اليوم ظروف الحياة الصعبة... والأكيد ان الحديث اليوم لم يعد عن ماضي المنطقة الدموي لأن رواياته أصبحت من الماضي البعيد وقد لا يصدق احد ان حكايات الدمار والموت مرت من هنا. حمام ملوان اليوم هي مدينة الطبيعة العذراء والنسب العريق المنحدر من الأصول الأمازيغية وتحديدا من عرش بني مسرة أهم العروش وأكبرها بمنطقة الأطلس البليدي، وهي منبع الحكايات المشوقة المتدفقة عبر مياهه المالحة والعذبة، وقد أصبحت اليوم حمام ملوان قطبا سياحيا بامتياز بالمتيجة، بل وربما في الجزائر كلها، يقصدها السياح من كل حدب وصوب..من البليدة والمدية تيبازة وعين الدفلى والبويرة وبومرداس وتبسة وبشار وخاصة وبنسب كبيرة من الجزائر العاصمة وحتى من خارج الوطن. وقد ساهم التوافد الكبير للعائلات على تنشيط الحركة السياحية بها مع بداية الألفية الثانية، حيث وصل رقم السيارات في يوم واحد إلى أكثر من 6000 سيارة وأزيد من 40 حافلة، ويسجل في نهاية كل أسبوع ما يفوق ال 15 ألف زائر، وجهة معظم الزوار الوادي الذي يسري بين أحضان المدينة ويقسمها إلى نصفين ويمتد إلى غاية حدود ''مقطع الأزرق'' وتلتف العائلات حول الوادي للتمتع بنقاوة مياهه التي لم تلطخها بعد يد الإنسان، وللسباحة فيه وهو يتدفق على أجسامهم فيما لا تفوت النسوة فرصة الاستحمام ب''عوينة البركة'' وهي عنصر مائي حار يخرج من بين الصخور على ضفاف الوادي- للتبرك بمائه والتداوى به أيضا، ويجنبهم ذلك زحمة التوجه إلى حمام سيدي سليمان المكتظ. وحتى المغتربون يفضلون زيارة هذه المنطقة، وقد وجدنا عائلات بأكملها رفقة أبنائهم الذين يزورون الجزائر لأول مرة رفقة أصدقاء فرنسيين أعجبوا أيما إعجاب بسحر وجمال المنطقة وبمناظرها الخلابة التي قل نظيرها، حيث يقصدون النهر الذي هيئ بخيم مصنوعة من القصب والمشيدة على ضفافه لراحة العائلات التي تفضل الاستمتاع بتناول وجبات الغداء على صوت خرير مياه النهر ونسيم الهواء العليل المنبعث من الجبال والممتزج بروائح أشجار البلوط والصنوبر حيث تبعث في النفس الراحة والسكينة. كما أن مياهه التي سدت بحواجز صخرية لتشكل به مسابح صغيرة تستهوي الأطفال حيث يقبلون على السباحة فيها وبفضل توافد العدد الكبير من السياح على حمام ملوان أضحى من الصعب أن تتمكن من الظفر بمكان لركن سيارتك خاصة بوسط المدينة الذي أصبحت تعج بالمتوافدين على حمام سيدي سليمان غير ان الحركة التجارية عرفت انتعاشا بالمنطقة لاسيما بالمطاعم ومحلات الملابس، التي وجد فيها بعض الحرفيين فرصة لترويج منتجاتهم خاصة التحف الفنية التي يقتنيها زوار الحمام للذكرى. والجدير بالذكر أنه رغم الشهرة الكبيرة التي اكتسبها حمام ملوان والتي عرفت معها توافد الآلاف من السياح، إلا انه لا زال يفتقر لمرافق تكون بحجم عدد زواره حيث أصبحت المدينة لا تستوعب العدد المتزايد من قاصديه خاصة في فصل الصيف مما يتطلب التفكير في تطويره وتحويله إلى قطب سياحي مهم من شأنه أن يضفي بعدا تنمويا على المنطقة. وتعول السلطات المحلية كثيرا على مشروع انجاز الفندق الجديد والتابع لأحد الخواص والذي من شأنه إعادة الاعتبار للمحطة المعنية التي لم تعد تستوعب العدد الكبير والمتزايد من الوافدين باعتباره المرفق الوحيد من نوعه بها والذي تجري به الأشغال بنسب متسارعة لتبقى المدينة بحاجة ماسة ومستعجلة إلى هياكل سياحية وخدماتية تستجيب لمتطلبات السياح ولتفعيل الحركة السياحية بالمنطقة وتطويرها.