كانت القيروان عاصمة الأغالبة منذ أسّسها الصحابي الفاتح عقبة بن نافع سنة (50 ه - 670م)، مركز علم وثقاقة يتّقد حيوية وإشعاعا بعدما أرادها قاعدة تنطلق منها الجيوش الإسلامية، وجعل المسلمون من جامعها القلب النابض، لكن الجامع لم يكتسب ملامحه إلاّ في عهد الأغالبة لما أحاطوه به من عناية فائقة حتى أصبح روعة من روائع العمارة الإسلامية في إفريقيا والمغرب الكبير، وكان له من الواقع على الخيال الجماعي ما يسرّ حياكة الأساطير، فهذه تتعلّق بضبط القبلة وأخرى تتناول تطهر الموقع من الضواري وغيرها. جامع عقبة أو جامع القيروان، هو أكبر مساجد الإسلام القديمة وأوّل بناء أقيم في إفريقيا المسلمة في أوّل عاصمة أسّست لها، وما من أمير أو خليفة أو سلطان يبتغي جميل الذكر وحسن الخلود، وخاصة الثواب عند الله، إلا وقد التمس لوحا من ناحية من هذا المسجد يسجّل فيه ترميما قام به أو تحسينا أذن به، ويعدّ الجامع من أبرز ما جاءت به العمارة القيروانية، آبدة الحضارة الإسلامية بالمغرب، فقد كان محل تعهّد من طرف الولاة والأمراء الأفارقة. ويعود الفضل لزيادة الله الأول في رسم ملامحه وتخطيطه النهائي (220-226 م)، وهو يشتمل على 17 بلاطة وثمانية أساكيب ويستمد تخطيطه من الجوامع الأموية مع الاقتداء بجامع الرسول صلى الله وعليه وسلّم، ويتميّز جامع القيروان دون غيره من جوامع العالم الإسلامي التاريخية بما في ذلك جوامع عواصم الخلافة، بالإضافة إلى معماره وتركيبته الهندسية، بالمحافظة على أغلب أثاثه الأصلي الذي يرجع إلى فتراته الأولى على غرار المنبر الخشبي، وهو أقدم المنابر الإسلامية التي سلمت من تقلّب الأزمان وهو مصنوع من خشب الساج، ويشتمل على ما يربو عن 106 لوحة تحمل زخارف نباتية وهندسية بديعة وتعبّر عن تمازج التأثيرات البيزنطية والفارسية وتوحّدها في روح إسلامية. يؤكّد الباحثون وعلماء الآثار أنّه لم يبق من البناء الأوّل الذي بناه الفاتح عقبة بن نافع من الجامع سنة 50 للهجرة، سوى المحراب، وهو موارى الآن خلف المحراب الأغلبي القائم، ولكن بالإمكان مشاهدته من خلال ثقوب زخرفية فيه مخصّصة فيما يبدو لذلك الغرض في لوحات تزيّنه، أمّا بناء الجامع الماثل اليوم للعيان فيرجع إلى تجديدات عديدة وزيادات مختلفة يعود أهمّها إلى آخر القرن الأول ثم القرنين الثاني والثالث، غير أنّ الفضل في بقاء محراب عقبة من الطوب إلى الأثر المشهور الوارد بحقه... وذلك أنّ عقبة وجماعة الصحابة ''اختلفوا عليه في القبلة، وقالوا إنّ جميع أهل المغرب يصنعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد، فأجهد نفسه في تقويمها، فأقاموا أياما ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس، فلما رأى أمرهم قد اختلف بات مغموما فدعا الله عز وجل أن يفرج عنه فأتاه آت في منامه فقال له ''إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك واجعله على عنقك، فإنك تسمع بين يديك تكبيرا لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير، فهو قبلتك ومحرابك''، وتمّ له ما رأى في المنام فركّز لواءه وقال ''هذا محرابك". ويعود إلى الفاتح الصحابي حسان بن النعمان بناء الجامع على آثار عقبة بن نافع، فهو الذي أخذ فيه ووسّعه أثناء ولايته (74 - 79ه) بأمر من الخليفة الأموي في دمشق هشام بن عبد الملك، ويقال أنه بأمر الخليفة هشام بنى بشير بن صفوان خلال ولايته (103 - 109ه) صومعة الجامع، وعنها يقول البكرى ''بنى الصومعة في بئر الجنان ونصّب أساسها على الماء، واتّفق أن وقعت في وسط الحائط''، والجنان المقصود هو بستان لبني فهر، قوم عقبة. ويتألّف المسجد من بناء مستطيل كبير، محوره الرئيسي يتّجه تقريبا إلى الجنوب الشرقي ومظهر غاية في الانتظام والجمال، وترتكز الأبواب في الجانب الجنوبي الغربي بين دعامتين في معظم الحالات، وهناك رواق في الفراغ بينهما، والكلّ مغطى بآثار متعدّدة من الطلاء الكلسي ما عدا الدعائم في الجانب القبلي، وبما أنّ الأرض تنحدر من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، فإنّ الجدران تختلف في الارتفاع من ثمانية أمتار إلى حوالي عشرة أمتار، والسمات الجيدة من الخارج هي القباب الخمسة والمئذنة الهائلة. وتنقسم قاعدة الحرم إلى سبعة عشر جناحا بواسطة ستة عشر صفا من الأعمدة المتعامدة من الجدار الخلفي دون أن تصل إليه، لأنّ صفا عرضانيا يمتدّ على بعد ستة أمتار منه، وعلى هذا الأخير تستند الصفوف الستة عشر، ويتألّف كلّ من هذه الصفوف من سبعة أقواس مترابطة بواسطة صفين عرضانيين، يمتدان خلالهما بين القوسين الأول والثاني، والقوسين الرابع والخامس من الواجهة الأصلية على الصحن، ولا يخترق الصف الأخير الرواق المركزي. ويبلغ متوسط ارتفاع الأعمدة (55,3 مترا) ويترواح قطرها بين (34و44 سم)، وتيجان هذه الأعمدة من أنواع مختلفة، بعض الأعمدة لها قواعد، أمّا أعمدة الصف الذي يبطن الجناح المركزي يبلغ متوسط ارتفاعها (23,4 مترا)، والأعمدة التي تحمل القبة أكثر ارتفاعا وهي أجمل ما في الحرم بعضها من الرخام الملون الجميل، وبعضها من الرخام الغرانيت، أو الرخام السماقي. وقلّ في المساجد القديمة مسجد ينافس بصحنه صحن جامع القيروان بقياس أضلاع شكله شبه المربع، وكلّ ذلك الفضاء الفسيح المبلّط برخام حديث لا يكاد يكون للمزاولة الشمسية الموجودة فيه فوق مبنى صغير الحجم، وكذلك فوهات المواجل الخمس المكونة في أصل تيجان أعمدة رخامية عتيقة ضخمة، وعند مسيل الماء في الصحن تشاهد تلك المصفاة المربعة ذات الدوائر والسطوح المتفاوتة لتصفية مياه الأمطار المنحدرة إلى الخزانات الواسعة الموجودة فيه تحت الصحن.وللجامع ثمانية مداخل، أربعة في الجانب الشرقي وأربعة في الجانب الغربي وواحد من هذه المداخل فقط في الجانب الشرقي له بهو، أما الرابع فهو من الشمال المعروف باسم ''باب الله رجانا المنسوب'' - حسب النقش - إلى أبي حفص في عام 693ه - 1294م والثلاثة أبواب الأخرى قائمة في ارتدادات مقنطرة ضحلة مختلفة العمق ومحاطة بأعمدة نصف ظاهرة، أقواس المدخلين الأولين متشابهة تماما، كلاهما ذو قالب زخرفي ممتد حولها ويشكل عقدة في القمة، ثم يمتد حتى يشكل إطارا مستطيلا، والنتيجة أنه شكل نسخة طبق الأصل عن قوس باب الله رجانا. أما الباب الثالث فإن حجارته مستوردة تماما بالطلاء الكلسي ولكن قوسه من النوع المدبب البسيط، الذي لا يشبه بأي شكل أقواس الجزء القديم من المسجد. وتوجد أمام الأبواب جهة الجانب الغربي بهو صغير مقنطر في الباب الأول والرابع وآخر متصالب والأخير بسيط مؤلف من العوارض الخشبية. والباب الوحيد الخالي نسبيا من الكسوة والطلاء الأبيض هو المدخل الرئيسي للحرم المعروف باسم السلطات مقابل باب الله رجانا. وإلى الجنوب من الباب في الجانب الغربي يوجد ارتداد آخر بعرض (75,2) م يعلوه قوس دائري حدودي، وهذان المدخلان لابد وأنهما كانا على جانب الواجهة القديمة للحرم بما هو الحال في مسجدي دمشق وقرطبة. زاوجت القيروان في تخطيطها بين خصوصية موقعها وعبقرية أهلها أهمية مركزها الديني والحضاري، وقد شابهت في عموم رسومها وبنيانها ما كان ينبغي أن تشبه فيه سائر العواصم والمدن العربية. وكما انطبعت الصناعة الأغلبية الغالبة بجامع القيروان بالتأثيرات الفنية الشرقية والبغدادية. فإننا نلاحظ تأثير الفن الفاطمي الواضح في الزخارف الملونة على خشب سقوف عدد من الأروقة، ما عدا سقف الأسكوب القبلي الكبير فهو السقف الوحيد الأصلي الباقي بالجامع، حيث لا تزال ألوانه القزحية تحتفظ بجاذبيتها وتناسبها عبر الأشكال الزهرية التي تحليه. ويختص جامع القيروان بسقوفه الخشبية المدهونة والمصقولة الراجعة إلى فترات تاريخية مختلفة تمتد بشريطها الكتابي المورق إلى ما يربو عن الألف سنة، وهي تنضاف إلى المقصورة الفريدة التي بناها المعز بن باديس بجامع القيروان حوالي (425 ه)، وهي مجموعة متكاملة تسمح بتتبع خطوات نشأة الفن التجريدي المعاصر.