القصة هي درة تاج الأدب النثري لا شك، أمّا القصة الجزائرية فهي العلاقة بين الأرض والكبرياء الإنساني، فأنت لا تجد عند القاص الجزائري روح الانهزام، ولا تجد عنده ضميراً مصطنعاً، هكذا قال الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار عام .2002 ''الضمير المصطنع''.. هكذا إذن لخّص وطار مدى تميّز القصة الجزائرية - ربما عن غيرها - بكونها ضّد كلّ ما هو مزيّف وأنّها تتفاعل مع الواقع في توافق منطقي للبحث دوماً عن مفاتيح ومنطق ثوري للأحداث، وهذا ما كلّف الشعب الجزائري ما يقرب من مليون ونصف مليون شهيد، ثمناً لاستقلاله وحريته، لكونه ببساطة شعب نستطيع وصفه باطمئنان، أنّه رمز للكبرياء الإنساني الحرّ بشكل عام ليس في وطننا العربي فقط، وإنّما على مستوى العالم ككلّ. والمبدع الجزائري هو شريحة نقية تدلّ بجلاء على عنصر شعبه وأمّته، وقد حمل هذا المبدع على عاتقه مسؤوليات وطنية كبيرة منذ كفاحه الأوّل ضدّ المحتل وحتى وقتنا الحاضر، أهمّها الحفاظ على الهوية واللغة والتراث من أن يتآكلوا بفعل الثقافة الغربية ودافع باستماتة - ومازال - في أن تكون الجزائر وطناً وحارساً من حرّاس اللغة والدين والتاريخ، ويعتبر الدكتور شريبط عام 1924 عام بدايات القصة الجزائرية المعاصرة بالفعل، وإن كان يرى الطيب ولد العروسي مدير مكتبة معهد العالم العربي في باريس، أنّ مع اكتشاف رواية ''حكاية العشّاق في الحب والاشتياق'' لمؤلفها الجزائري محمد بن إبراهيم (1806- 1886) والتي كتبها عام ,1847 أنّ قناعات مؤرخي الرواية العربية اهتزّت بالفعل؛ ففي حين كان يرى المؤرّخون أنّ تاريخ الرواية العربية يبدأ بصدور رواية ''زينب'' لمحمد حسين هيكل عام ,1913 يأتي اكتشاف السنة التي صدرت فيها رواية محمد بن إبراهيم ''حكاية العشاق'' وهي سنة 1847 كي يقلب معطيات نشأة تاريخ الرواية العربية ويغيّر وجه المكتبة العربية باعتبارها الرواية العربية الأولى بدل رواية ''زينب'' لمحمد حسين هيكل التي صدرت سنة .1914 ورغم كون القصة العربية عامة والجزائرية خاصة في بداياتها لا تدنو إلى مستوى تجارب متواضعة وإنّما كلاسيكية سردية ووصفية في غالب فصولها، إلاّ أنّها في نفس الوقت لا ترقى إلى مستوى التطوّر الفني المتعارف عليه تقنياً ونقدياً، ويكفينا أن تكون البدايات جادة وتحمل من الحسّ الوطني ويقظة الوعي ما يدفعنا للفخر برموزها الأوائل، بل وسيزيدنا فخرا لو صحّ البحث في مسألة أن محمد بن إبراهيم هو أوّل من كتب القصة العربية في عام 1847 وسبق محمد حسين هيكل بستة وستين عاماً، إذ ستدفعنا صحة ذلك البحث إلى الإحساس الأعلى بالقيمة لعمق جذور فن القصة العربية المعاصرة الزمني أمام القصص الغربي المعاصر. وربما يعتبر الكثيرون أنّ أول نوفمبر عام 1954 - تاريخ قيام حرب التحرير الوطنية - هو التاريخ الحقيقي للقفز فوق البدايات والتطوّر الفعلي في فنّ القصص الجزائري المعاصر سواء على صعيد الشكل أو المضمون، حيث عايشت ''القصة'' وتعايشت مع رجال الثورة وقاومت معهم المحتل بالكلمة والتصوير والتحفيز، وربما من القصّاصين الذين تفرغوا للقصص الثوري فاضل المسعودي وعثمان سعدي ومحمد الصالح الصديق وعبد الله ركيبي، أما أبرزهم ممن اعتبرهم الكثير من النقاد والمتابعين لحركة الأدب في الجزائر أنّهم كتّاب جيل الثورة الفعليين (1954-1962)، فكان الطاهر وطار وأبو العيد دودو وعبد الحميد بن هدوقة، واسيني الأعرج، رشيد بوجدرة، ويمكننا الاطمئنان بعد عدّة مباحث وقراءات لليقين، بأنّ أوّل نصّ روائي جزائري معاصر مكتوب بالعربية ويحمل كلّ المواصفات الفنية المتعارف عليها نقديا، هو رواية ''ريح الجنوب'' لعبد الحميد بن هدوقة (1925 - 1996) التي كتب لها الصدور في الجزائر عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع سنة .1971 ونحن في هذا المقال لسنا بصدد الحديث الأكاديمي عن القصة الجزائرية كتاريخ ولكننا بصدد قراءة نقدية أولية لما بعد التاريخ، قراءة نقدية أولية معاصرة للقصة الجزائرية الآن ومبدعيها الحاليين الذين رغم اغتراب المناخ الثقافي العربي إلاّ أنّهم آثروا إلاّ أن يكتبوا بالعربية لا الفرنسية ويتفاعلوا مع الثقافة الأم دونما اغتراب في كفاح نادر ومحمود، ومن هؤلاء كان لا بدّ لنا أن نأخذ أنموذجا فكان الأديب القصصي المعاصر أحمد ختاوي، وكان اختيارنا له اختيارا عشوائيا لا يتبعه قصد أو ترصّد وحيث سبقتنا إليه أعماله مثلما سبقتنا إلى غيره أعمال كثيرة في غاية النضج والوعي لكتّاب معاصرين أمثال ياسمينة صالح، خليل حشلاف، السعيد مرابطي، عيسى بن محمود، وغيرهم كثير لا يتّسع المقال لذكرهم وإن كانوا بقامتهم وقيمتهم الإبداعية ملء الوعي والضمير بالفعل. يقول الدكتور عبد المالك مرتاض أنّ المضمون الاجتماعي في القصة الجزائرية المعاصرة قد استحوذ على خيال الكثير من كتاب القصة، وخاصة محور الفقر. ويعتبر مرتاض أنّ أهمّ عنصر في القضايا الاجتماعية هو عنصر الأرض والسكن والهجرة من أجل العمل، ثم يعلق ''فما هذه المشاكل الاجتماعية إلاّ ثمرة من ثمرات الفقر الجاثم''، وربما لا أجد - مع الدكتور عبد المالك مرتاض - عيبا في أن يفضح القاص حالة اجتماعية سلبية داخل وطنه، بل هي قمة الوعي الإبداعي، لكوننا لم ولن نكون مواطنين أصحاب قداسة في وطن من الملائكة فقط، فذلك عين الشذوذ وذروة الخيال المريض، إذ أنّ الوطن كما فيه الورع فيه الفاسد، وكما يرفل حراً بأرواح مخلصيه نجده في فوضى أحيانا ممن يحاولون أن يبيعوه بدراهم قليلة. وهنا تكمن قيمة القصص عند ختاوي، فهو لا يدعك - كقارئ - تفلت من يده، بل يدفعك في كل صورة من صور إبداعه داخل العمل القصصي إلى أن تتأمّل حتى تصل إلى درجة استفزاز الخيال لديك فتثري بخيالك الذي تم استفزازه - ايجابيا - سيناريو القصة لتصبح دون أن تدري مشاركا فيها وجزءا أصيلا منها بعدما أعطاك هو مفاتح الولوج والانغماس، والقصص عند ختاوي يظهر لك فيه مدى عشقه واندماجه في محبّة بلاده من أعلى نقطة في صحراء وطنه وحتى ظلّ النقطة عندما يدنو الوطن شمالا من البحر. وهو يسلط الضوء دوما على القضايا الإنسانية في مجتمعة، مهموم من وعثاء الفقر والتهميش، غارق في الرمز تجاه عروبته التي يعتبرها الشريان الأورطي ووسيلة النجاة الوحيدة لعالمه المليء بالمتناقضات وحيث هذا العالم لا يرى أقرب النقاط إليه كما ينبغي، لا يرى وطنه كما ينبغي، إنه يجنح دائماً بشفرة خاصة إلى تلك العلاقة الحميمية التي يجب أن تربط الكل بالأرض. فرغم الفقر وتدني الحالة الاجتماعية عند القاعدة العريضة من أبناء الوطن ورغم الغضب من تعثر الأحلام، يدفعنا ختاوي إلى التماس الحلّ في الأرض والوطن، وذلك في غالب أعماله التي أذكر منها ''إبط السفينة''، أطياف الرخام''، ''بلح الليل''، نهيق المقهى''، ''أيوب يختلس أوجاعه''، ''منارة من عبث''، ''العبور إلى قيظ الهجير''، و''الترعة''، ولعلّ من أهم رواياته رواية ''المدينة بدم كذب'' التي صدرت مؤخراً عن منشورات ''ليجوند'' بالجزائر. والظاهر عند ختاوي في غالب إبداعه أنه لا يقدّم حلولا شخصية ذاتية من عنده، لإيمانه بأنه مبدع ليس عليه أوّلا إلاّ تشريح مجتمعه واستبيان مواطن الضعف والقوّة فيه، ومن هذه النقطة تجده يقدّم علامات استفهام في إطار إنساني عميق الدلالة لا يخلو من الرمزية تدفعك لأن لا تجد حلا إلاّ في الأرض والوطن وليس في الاغتراب والهجرة، ختاوي يدفعك للثورة على ذاتك، على بؤسك، على من لعبوا بأقدارك وأحلامك وقادوك إلى حاضر شبه مظلم، يدفعك للثورة قبل الانعتام التام. إنه يستصرخ الناس، يستصرخ الكلّ في العودة للجذور، للبحث عن الذات الأصلية، الوجه الحقيقي للشخصية التي نمتلكها ويعرفها ويألفها فينا الوطن منذ أن صار وطناً، ففي قصة ''الدقائق التي لاذت بالفرار'' المكتوبة عام ,2005 يأخذك ختاوي بسيناريو مكتوب بعناية إلى حالة الفقر التي يعاني منها البسطاء، قاعدة الوطن وحماته الأصليين، فالأم ولدها جائع وثدياها فارغان، والأب تمّ تسريحه من عمله ويطارده الدائنون، ومن هذه الانطلاقة يحكم ختاوي قبضته على مشاعرك الإنسانية ويبدأ في بناء الرمز الذي يريده للدلالة على خطب أكبر من الظاهر المعلن، فالأم وطن أمّا الأب فهو الرمز المسؤول عن ذلك الوطن ومستقبله (الطفل)، والكلّ محاصر حصار الجوع والبطالة رغم فتوة الأب وقدرته على الحماية والعطاء، إلاّ أنّ الجوع صنع الدائنين الذين أوشكوا على وأد المستقبل وقتله، فالوطن عند ختاوي ثار على المحتل ولاحت بالثورة طلائع فجر وتباشير صباح، لكن رغم ذلك فالمستقبل تائه مغيّب نائم لا يفيق وربّما هذه الحالة ترضي - قسراً - الأم لعجز الأب الآن عن خلق واقع وحاضر مشرق لكون الحاضر والواقع غارقين في مستنقع الديون، واقع وحاضر لا يكفيان ولا يدفعان لري ظمأ مستقبل يتعطش لكفاح الواقع واستثمار طاقات الحاضر وجهد الكل فيه، يرفع ختاوي صافرة التحذير لنا ويعلقها راية على كل خارطة الوطن وجغرافية المكان، فنحن إن كنا قد أخرجنا المحتل من بلادنا بالفعل إلاّ أنّنا تركنا له حقّ التحكّم في أقدارنا ومستقبلنا، حتى أثقلت ديونه كاهل الوطن وكاهل مواطنيه، لم نعد نرى - رغم الاستقلال - مستقبلا يقظاً نستطيع استنهاضه وتحديد ملامحه، بل ويتملكنا الخوف من ان نفقده من شدة التبعية بالديون والاغتراب السياسي والاجتماعي، بل واغتراب الوعي والعقل في أحايين كثيرة. ولو أفردنا للرمز ''الأرض - الوطن'' عند ختاوي عنان التحليل والشرح ما وسعنا مقال وإنّما لا يسعه إلاّ دراسة، لأنّ الرمز عند مجمل أعمال ختاوي هي السبب الرئيس لأهمية أعماله، بل وأهمية منهجه في كتابة القصة والرواية والتي يختلف فيهما عن كل من سبقوه ويتفرد من خلالهما بشخصية إبداعية، لها وزنها ووجهها وطبيعتها وحيث يصب الكل في عشق الوطن.