أيا ما كانت الانتقادات التي نوجهها للجوانب السياسية في الجزائر، إلا أنه ينبغي الاعتراف بأن فترة سبعينيات القرن المنصرم كانت من أزهى الفترات على الصعيد الثقافي. علماء توافدوا على الجزائر من شتى أصقاع الدنيا، وأدباء ومفكرون وشعراء. رأينا نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري وسليمان العيسى ومحمد الفيتوري وغيرهم من الذين صنعوا مجد الشعر العربي الحديث. ولعل ملتقيات التعريف بالفكر الاسلا مي التي كانت تنظمها وزارة الشؤون الدينية كانت أشبه بالموئل لجميع المفكرين في الشؤون الفقهية والاجتماعية. فقد رأينا الشيخ أبو زهرة، وموسى الصدر وعلال الفاسي ومحمد الطالبي وغيرهم. وأذكر من ضمن ما أذكره اليوم، جلسة هي من أروع الجلسات في حياتي في تلمسان، عاصمة الزيانيين، عام .1975 كنا في المطعم بعد الفراغ من الإنصات إلى الخطباء وهم يتداولون على المنصة لتجاذب الأفكار والنظريات في شؤون الدين الاسلامي وتاريخ الحضارة العربية الاسلامية. وإذا بالسيد مولود قاسم نايت بلقاسم، الوزير الجهبذ، يدخل قاعة المطعم، وقد صحبه المؤرخ التونسي الجليل عثمان الكعاك، صاحب كتاب تاريخ البربر، والشاعر الرومانسي المصري، صالح جودت، وناظم ألياذة الجزائر والنشيد الوطني، مفدي زكريا، والعالم اللبناني الدكتور عمر فروخ، والدكتور زكي نجيب محمود، صاحب الفلسفة الوضعية، والدكتور عثمان أمين، صاحب الفلسفة الجزانية، وأستاذ مولود قاسم في الجامعة المصرية في مطالع الخمسينيات من القرن الفائت. شعرنا بالزهو حقا حيال هذا المشهد العلمي الذي لا يجود به الزمان إلا نادرا. بل إننا أحسسنا وكأننا في قرطبة الزهراء، عاصمة الأمويين، أيام العظمة الحضارية، أو في بغداد، زمن المأمون، أو في حلب، زمن سيف الدولة الحمداني. وجلس الجميع إلى طاولة تزدهي بمختلف الأطعمة. وأذكر أن الدكتور عثمان أمين سأل مولود قاسم عن نوعية التين الموضوع أمامه، فأجابه بأن الجزائريين يطلقون عليه تسمية ''البكور''، أي ذلك الذي ينضج قبل الأوان. وإني لأتساءل اليوم ما إذا كانت مثل تلك اللقاءات العلمية الخارقة ستتكرر في يوم من الأيام. وأقول لنفسي: كل شيء مرهون بالنظرة التي نلقيها على ما حولينا، وبالآفاق التي نريد ارتيادها. رحم الله ذلك الزمن، وأعاد الوجوه الزاهرة التي كانت تتلألأ في سمائه.