كان أوّل أمس ''الفكر والمدينة في الحضارة الإسلامية''، موضوع المحاضرة التي ألقاها الأستاذ رشيد وقاص بالجاحظية، محاولا من خلالها الحفر في الموضوع، مستندا على بعض الشواهد التي يرى فيها دليلا على ما ذهب إليه خلافا لابن خلدون ومالك بن نبي وأركون. استهل المحاضر مداخلته بالتأكيد على أن فكرة المدينة في تاريخ الحضارة الإسلامية فكرة أملتها الظروف التي يعيشها العالم العربي والإسلامي، بحيث أننا أمام منعرج حاسم في بناء الأمة الإسلامية وبناء دولنا بناء حديثا يقتضي معرفة الدولة بمفهومها الحديث، لأن هذا الفهم هو الذي يؤسس للمستقبل، سيما وأنّ الأجانب كل يوم يعقدون اتفاقا في شراكة أو تحالفا جديدا، بينما دولنا تشهد تمزقا يوحي بأن المجتمع العربي يفتقد لمفهوم الدولة. ويضيف وقاص في مداخلته، أننا نفتقد للدولة في سياقها التاريخي وهذا لأسباب فكرية، نسأل هل منظومتنا الفكرية التي تبنّاها مجتمعنا تعي مفهوم الدولة؟ ويضيف في تحليله لمفهوم الدولة، أنه يحاول معالجة ما هو مترسب في التاريخ من خلال عالمي الاجتماع ابن خلدون ومالك بن نبي في شروط الحضارة وبناء مجتمع، حيث لم يهتما أو يشيرا إلى هذا الجانب، ولنعرف مفهوم الدولة ينبغي لنا العودة إلى نقطة مضيئة في التاريخ العربي وهي الهجرة النبوية، حيث أن كتاب السيرة والتاريخ لم يشيروا إلى شيء مهم جدا وهو معنى الهجرة، هل كانت من مكان إلى مكان؟ هل كانت نتيجة ضعف وطلبا للحماية؟ ويشير المحاضر إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم من المفترض أن يكون محميا بالعناية الإلهية. ويقول الأستاذ وقاص في ما يخص الهجرة أنه يرى أن الرسول لم ينتقل من مكة إلى المدينة انتقالا من مكان إلى مكان، أو أنه كان خائبا يطلب اللجوء؛ بل انتقل من فكرة إلى فكرة، من فكرة القبيلة إلى فكرة المدينة إلى فكرة الدولة. متسائلا في نفس الوقت » هل بوسع طالب اللجوء تغيير اسم حاضرة القوم من اسم يثرب إلى اسم ''المدينة''؟«. ويضيف الأستاذ وقاص قائلا، تبرز عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم في اختياره ليثرب اسما ومصطلحا ''المدينة'' قائلا : » لا تثريب عليكم اليوم«. وينتقد المحاضر كتاب الحديث ومفسريه انتقادا لاذعا، وكأنهم في رأيه افتقدوا اللغة العربية حينما شرحوا مفهوم التثريب باللوم، لم ينتبهوا لما ينطوي عليه التثريب أنه »لا قبلية بعد اليوم«. ويضيف المحاضر عدم التفكير بالقبيلة، بل بمفهوم المدينة، وهو الانتقال من القبيلة إلى المدينة عندما غير اسم الحاضرة، يأمر بإبرام عقد اجتماعي وذلك من خلال مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، كما يعقد مواثيق بين المسلمين واليهود. ويرى المحاضر وقاص أن في فكرة المدينة تذوب القبيلة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك أن الاجتماع هو وليد المدينة لأنها هي التي تصنع الأفكار. ويذهب الأستاذ وقاص في تحليله، إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أقام العقد الاجتماعي، أضاف إليه لمسة أخرى تتمثل في بناء الجامع، لأن الجامع ليس هو المسجد كما يعتقد البعض، فالمسجد هو موضع للسجود، وأن الأرض كلها مسجد، بينما الجامع هو للتلاقي للسلوك والتعامل بين المسلمين، وحينما غيرنا المفاهيم »وأبدلنا الجامع بالمسجد أصبح الجار لا يكلم جاره«. ويقول المحاضر أن » الرسول جمع كل هذه المفاهيم ليؤسس دولة حديثة لينتقل بالفكر العربي من القبلي إلى المدني، لأن الفكر القبلي يقوم على النسب وعلى الأنا وعلى القوة وعنصر المقارنة، بينما الفكر المدني يقوم على عنصر المشاركة والإيثار والمحبة«. ورأى وقاص أن ابن خلدون ومالك بن نبي وشكيب أرسلان لم ينتبهوا إلى نقطة مهمة، وهي » لماذا أصبح المسلمون بهذا الضعف الآن وأين محور هذا التحول؟«. مرجحا أنهم » لم يكتشفوا تيارين متصارعين في مكان واحد، الفكر العربي والفكر الإسلامي، والرسول صلى الله عليه وسلم اهتم ببناء مجتمع المحبة والإيثار وأن يعيش الإنسان من أجل الآخر، من أجل الإنسان أن يتواضع له أن يشاركه في الحياة«. وينتقل المحاضر إلى الخلفاء بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والصراع الذي قام بعده بما يعرف في كتب التاريخ بالفتنة الكبرى والتي ما تزال إفرازاتها إلى يومنا هذا، حيث بدأ الصراع بين الفكر الإسلامي والفكر العربي في عهد الرسول من خلال دعاة النبوة مثل مسيلمة الكذاب وسجاح، (حيث أراد مسيلمة المشاركة في النبوة التي لم ينكرها وجاء هذا بدافع الحس القبلي) وحروب الردة حيث امتنعت بعض القبائل على أداء فريضة الزكاة واعتبرتها إتاوة لقريش، وأن الخليفة الصديق لم يقاتل المرتدين من أجل فريضة من فرائض الإسلام، بل أراد أن يحافظ على مدينة الرسول وحمايتها من الفكر القبلي، كما كان اختياره لعمر بن الخطاب لما من فيه قوة اندفاع خليفة من بعده، فقد تميز العهد العمري بالرخاء مع صرامة عمر، ليأتي بعده عثمان بن عفان الذي اتسعت في عهده الرقعة الإسلامية وكثرت الخيرات وكانت له خبرة اقتصادية، لأنه كان تاجرا، لكن منطق القبيلة يعود ليتهم فيما هو له، يتهمه بتبذير الأموال وانعدام العدالة وهو المعروف عنه بتجهيز الجيش. ويرى المحاضر بين المدينة والحضارة، أن الحضارة سلوك عملي وسياسي، لكن هناك فرق بين الحضارة والعمران، الحضارة في التصرف الأحسن المثالي الأخلاقي في القضايا، عثمان استسلم لمنطق القبيلة وأدرك أن فكر القبيلة قد نما وأصبح يشكل خطرا وأدرك أن الموت هو السلوك المتحضر فلم يجابه حتى استشهد. ثم ينتقل المحاضر بنا إلى الخليفة علي بن أبي طالب، ويرى أن قوته في الصبر وتحمل الشدائد، بينما قوة عمر كانت قوة اندفاع، علي رجل قضاء، نجده يحاجج ويصبر على خصومه لكن أمام قوة القبيلة رأى أن يتنازل، وبعد علي يأتي منطق القبيلة مع معاوية والخلافة الأموية ثم من بعدها العباسية التي انشطرت إلى دويلات. ولم يهتم مالك بن نبي بعنصرين مهمين في بناء الدولة، هما الجانب الروحاني والإرث الذي وجدناه في تأسيس الدولة النبوية كسلوكات متحضرة، الفكرة - الفكرة المشتركة - أهملنا رصيدنا التاريخي في العودة إلى فكر المدينة، الأوربيون لم يعرفوا الفكر المدني إلا عن طريق الاتحاد الأوربي من خلال إلغاء فكرة الأنا، القومية والنسب. فتح بعد المحاضرة المجال للنقاش، وقد أوخذت على الأستاذ المحاضر عدة أشياء، منها عدم قدرته على التحكم في الموضوع لاتساعه حيث يتطلب كتابا، إضافة إلى إلغائه النسب في المدينة الإسلامية ولم يأت الخلفاء من قريش إلا باحتجاجهم على الأنصار بحديث »الإمامة في قريش«، وكذا التثريب لم يقلها لأهل المدينة وإنما قالها في فتح مكة حينما سأل قومه ماذا يرونه فاعلا بهم فقالوا »أخ كريم وابن أخ كريم«، فقال مثلما قال يوسف لإخوته »لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم طلقاء«.