تظل اللغة العربية بهية مشرقة حتى وإن كانت وراء مشكلة من المشكلات الحياتية. ولطالما ابتسمت بيني وبين نفسي لما حدث لي في هذا الشأن من مراوغات كلامية مع الآخرين. من ذلك، أنني ذات يوم وأنا أعود مريضا في مستشفى بني مسوس الواقع بأعالي الجزائر العاصمة، وجدتني من حيث أدري ولا أشعر، أركن سيارتي بجوار محافظة الشرطة. وعدت بعد نصف ساعة فوجدت شرطيا من المحافظة نفسها يدبج لي محضرا لست أذكر قيمة المبلغ الذي كان يتعين علي أن أدفعه. تركته ينهي أدبياته الشرطوية (وهذا تعبير مني)، ثم خاطبته بأدب: - يا أخي، لا لوم علي ولا تثريب، فأنا لم أجد مكانا آخر أركن فيه سيارتي. لكنه لم يرد علي، بل اكتفى بتسليمي قسيمة المحضر. ثم إنني انفجرت ضاحكا في وجهه وأنا أتأمله طولا وعرضا، وهو مشدوه مني، ينظر إلي حينا، ثم إلى بزته ومسدسه لعل شيئا ما لا يوجد في مكانه. سألني: ما الذي يضحكك؟ تأملت عندئذ قسيمة المحضر، وقلت له: أنت تكتب اللغة العربية بشكل جيد. أعجبه مديحي ذاك، وانتفخ مثل ديك رومي. أضفت قائلا: أنت لم تنس اللغة العربية بعد هذه العقود الطويلة من الزمن. وهنا رسم ابتسامة على شفتيه وجعل يقرأ تقاطيع وجهي أملا منه في أن يعرف من أنا والأمر الذي يضحكني. سألته: أتراك تعلمت اللغة العربية لكي تدبج لي مثل هذا المحضر؟ وازداد حيرة في أمري، فسألني: ومن تكون أنت؟ أجبته: أنا فلان الفلاني، وكنا ندرس اللغة العربية معا في عام ,1953 ألست تذكرني؟ عندها خطف مني قسيمة المحضر، وأراد تمزيقها، فلقد ساءه بعد تلك العقود الطويلة من غياب بعضنا عن بعض أن يعاود ربط العلاقة معي في مثل ذلك الظرف الشائن. انسحبت إلى الوراء قليلا وقلت له: بل سأحتفظ بهذه القسيمة وسأضعها بين أوراقي. كان يأتي إلى المدرسة من حي (لارودوت) ماشيا على القدمين، ولا يكاد يتخلف عن درس واحد. وكان في الوقت ذاته يحب الاختلاف إلى حي القصبة ليبتاع بعض الحاجات القديمة لوالده. أما في الفصل الدراسي، فكان نجيبا حقا، وليس أدل على ذلك من أنه لم ينس اللغة العربية بالرغم من أنه خاض غمار الحياة في سن مبكرة لكي ينال قوته وقوت والديه. وجلسنا عندئذ معا عند مدخل المحافظة نتبادل ذكريات الصبا ونستعيد أسماء زملائنا بعد خمسين عاما من الزمن. فلان مات، وفلان الآخر استشهد في حي القصبة، وثالث استشهد في الجبل، وفلانة، استشهدت في عام 1959 بالولاية الثالثة وهلم جرا.. وختمنا الحديث يومذاك قائلين: ألا ما أجمل اللغة العربية حتى وإن كانت تؤدي بنا إلى مواجهة بعض الصعاب الحياتية! ومازلت بين الحين والآخر ألتقي بزميلي هذا بعد أن أحيل على التقاعد وفضل أن يبقى في نفس الحي الذي يسكنه منذ الحرب العالمية الثانية.